الأربعاء، 27 أغسطس 2008

رد على "ثقافة عنترة"



أرسلتُ مقالي الآنف "عنترة: بين الإشراك والتوحيد" إلى أحد الأصدقاء، ورد عليّ بهذه المقالة والتي عنونها ب"قربٌ منفوخة".

قُربٌ منفوخة
تحية طيبة،،

بدايةً شكرا لتواصلك الأدبي أخي العزيز حمد، وفي بداية مشوار التعليق على ما كتبت أود أن أوضح أنني لا أعارض شيء مما ذكرته في مقالك الذي عنونته بعنترة كفاتحة قصف للقُربِ المنفوخة التي نعايشها في واقعنا العربي الماضي والمعاصر ؛ وأعتقد جازماً أن القائمين على مُلحق شُرفات قد يتحفظون على نشر بعض ما كتبته كونه يعد تحريضاً على الرمز العُماني الذي يكاد يكون الأوحد في عقل المواطن الظاهر والباطن!وهنا لابد أن أعرج على شخصية عنترة بن شداد العبسي ، فهو كما ذكرت كان رمزاً للعاشق الفارس صاحب النخوةِ والشجاعة ، وحقيقةُ الأمر أني أستغرب كيف تمكن عنترة من بلوغ هذا المقام الرفيع مستنداً في استغرابي إلى العنصرية الشديدة التي كانت وما زالت إلى يومنا هذا تمارس ضد أصحاب البشرةِ السوداء ، فهم العبيد والموالي والبيسر وغير ذلك من الألقاب ، هناك من يقول ومنهم طه حسين أن عنترة كان شاعراً فقط ولم يكن فارساً كما تروج له الأدبيات والقصص الشعبية العربية ، ولفصاحة شعره وذوده به عن قبيلته " عبس " استطاع أن يرتقي في السلم الاجتماعي الطبقي في ذلك الوقت ، فليس لدى العرب في ذلك الزمان أحب من الشعر والشعراء ، كما أن سيرة هذا الرجل غير متفقٍ عليها فهي في الحجاز تختلف عن الشام والعراق ، والظاهر أن قصة هذا الرجل قد بنيت في عصور مختلفة وجرى الإضافةُ عليها مراتٍ كثيرة حتى وصل إلى هذه الدرجة الخرافية من المناقب والأوصاف ، فمما يروى أنه كان يقطع 50 رقبة بضربة واحدة ، ولعمري أن هذا هو الفُحش والعري الأدبي بعينه!إن العرب بشكلٍ عام دائماً ما يبحثون عن ( الرمز ) وفي هذا الرمز يختصرون كل أفكارهم الطوباوية عن الإنسان المثالي ، فنجدُ الرمز شاعراً وشجاعاً وشهماً وكريماً ومقداماً ، وهنا لابد أن أوضح أن المشكلة لا تكمن في الرموز فقط من خلال ما يحاولون بثه وترويجه عن أنفسهم بوسائل مختلفة أهمها في العصر الحالي الإعلام ، بل المشكلة مقرونة بالوعي الجمعي للعقلية العربية ، فدائما ما يبحثُ العربي عن رمزٍ يهتدي به وهو يعتقدُ جازماً ( نتيجة تراكمات مجتمعية ) أنه بدون هذا الرمز ليس قادراً على فعل شيء ..إن إشكالية الإنسان الرمز في المجتمع العربي بشكل عام تعود إلى طريقة التربية العربية منذ الصغر ، ففي البيت مثلاً وهو أصغر مؤسسة سلطوية في المجتمع العربي ، نجد طريقة إدارة كثير من الآباء لأسرهم لا تختلف عن طريقة إدارة الحُكام العرب لشعوبهم ، حيث أن الأب هو رمز الأسرة ومهما اتخذ من قرارات فهو مصيب ، كما أنه أقوى رجلٍ في الأسرة ، والأشجع فيها ، وقس على ذلك من الصفات ! يكبر الإنسان العربي وقد تشرب قيم السلطة الأبوية، ليرنو بنظره إلى رمزٍ أعم وهو قد يكون خارج المحيط الأسري رجل الدين أو الحاكم أو لاعب كرة القدم الشهير أو غير ذلك، وأعتقد أن هذا هو المنطلق الأساس لبداية النفخ في القرب! حيث تتضافر العقلية العربية للمواطن البسيط مع جهود التلميع التي يقوم بها الحاكم العربي لينتج عنها في المحصلة الرمز المسخ المثالي الخُرافي العربي !لابد أن أخص بالإشارة هنا شخصية " صدام حسين " فهذا الرجل الذي شغل العالم ما يقارب الثلاثة عقود ، وأصبح أسطورة عربية بامتياز ولك وحدك أن تتساءل ماذا يمثل هذا الرجل لدى كثيرٍ من مواطني الدول العربية مع أنه لم يحكم أيا من هؤلاء المواطنين ، فرغم الحقائق الدامغة على كونه رجل استبداد من الطراز الأول ، وأنه ارتكب مجازر بشعة في حق شعبه وشعوب مجاورة ، ولم يؤمن يوماً بأي قيمة من قيم الديمقراطية والحرية ، إلا أنه أستطاع أن يصل إلى مصاف الأنباء والرسل والشهداء! فهناك من مواطني العرب من شاهد صورة صدام مرتسمة على سطح القمر، ومنهم من بشره بالجنة، باختصار أصبح رمزاً قومياً لدى كثير من بني جلدتنا ، تحاك حوله الكثير من الغرائب والعجائب !إنها القمع مؤسسة عربية تتسع للجميع ويمارسها الجميع ، الأخ الأكبر على أخوانه الأصغر سنا ، والأب على أسرته ، ورجل الدين على أتباعه بطرق ملتوية ، والمدير على موظفيه ، والحاكم على رعيته بطرق وأساليب لينة حيناً وقاسية أخرى..وفي النهاية هذه القرب المنفوخة التي نعظمها هي من صنع أيدينا ، بئساً لنا ولهم!!



الاثنين، 25 أغسطس 2008

عنترة بن شداد بين التوحيد والإشراك 3-3



3. السيف والقلم:

السيف: برع الأمراء والخلفاء المسلمون في السيطرة على أقاليم الدولة من خلال المبدأ التالي "من أشار برأسه هكذا، ضربناه بالسيف هكذا وهكذا" ولهذا كان للأمير قديماً سيافه وصاحب النطع الذي لايتوانى عن قطع أي عنق إرضاءً لسيده. وللأسف ورثت الدول الحديثة سيف عنترة البتار الذي حصد الرؤوس التي أعلنت عن نفسها لتخمد الرؤوس التي تراودها الظنون بعدم وحدانية عنترة. لكن الدولة لم تعد تستخدم السيوف القديمة، بل تعدت ذلك إلى أجهزة الأمن والمعتقلات والتعذيب والاغتيالات وغيرها من الأساليب المستبدة التي زخر بها تاريخ منطقتنا العربية. كانت النتيجة أن هذه الأوطان لم تعد تحوي إلاّ المستكينين لعقيدة عنترة.

القلم: لعب القلم دوراً مهماً للغاية في تدعيم السلطة من خلال انخراط أرباب القلم والفكر في الدولة منافحين عن المُستبد لتسويقه كمُستبدٍ مُستنير أو رسمه كمُنقذ ضروري للمرحلة. ويؤدي أرباب القلم دورهمُ إمّا بإيمان أو بمنفعة ماديةٍ (وهو الغالبُ). وقد نجح هولاء في تصوير المستبد بأنه يشغل ويحتكر كلُ الأمور الضرورية (وأحياناً غير الضرورية) في النظام والمجتمع. فالمستبد يتحول تدريجياً -كما يُسوق- من قائد مُلهِِِم إلى قائدٍ مُلهَم وبهذا يركز رويداً رويداً بعض الخصائص الإلهية حول شخصه. وقال الشاعر حديثا:
من المرمر صاغوا مثاله.... .... وطافوا به كل ناحية زمرُ

لهذا مازالت الدول الحديثة تهتم برعاية المثقفين المسوقين للنظام السائد، مبيينين فضائله ومحاسنه. أيضًا فرضت هذه الأنظمة سلطتها القصوى وقيودها الصارمة على وسائل الإعلام. ويظهر لنا أن القلم كان معنياً برسم الصورة النمطية لعنترة، والسيف مسؤول عن حصاد الرؤوس التي ترفض هذه القيم الأسطورية.

ومن هنا رأينا أن الإعلام الرسمي في عالمنا العربي بدأ في تسويق فكرة عدم ملائمة النموذج الغربي للديموقراطية لأمتنا ذات الخصوصية الحضارية والثقافية. وللأسف تجد هذه الفكرة الرواج المريب لدى البعض منا.

4. المال وطبيعة القطاع العام:

يقول المثل العربي "قطع الأعناق ولاقطع الأرزاق"، وفي حقيقة الأمر يصح ترتيب هذا المثل "لالقطع الأرزاق وبالتالي لالقطع الأعناق". منذ أن تحول المجتمع بسرعة كبيرة من الطبيعة الرعوية والبدوية إلى الطبيعة الحضرية، انتقلت شرائح مهمة في المجتمع من طور الاستقلالية المعيشية إلى طور التبعية الاقتصادية للدولة. ففي باديء الأمر، استوعبتْ الدولة شيوخ القبائل المهمين بالمال السياسي لكسب ودّهم وكفّ شرهم، وفي مرحلة لاحقة استدعى تغيّر بنية المجتمع اتساع الجهاز الحكومي فأدّى ذلك إلى امتصاصه أعداداً كبيرة جداً من أفراد القبائل الرعوية والريفية ضمن تلك الأجهزة. فنشأت البيروقراطية الحكومية في المجتمع، وصارت الدولة بأجهزتها الوعاء الشامل والجامع لأغلب القبائل ورجالاتها. في مرحلة لاحقة بدأ المجتمع باستقبال أعداداً متزايدة من خريجي الجامعات نتيجة لتطوّر النظام التعليمي في الدول، فازداد استيعاب الدولة لتلك المخرجات لتضمن لهم مقاعداً مهمةً في بنية الدولة، وليتحول الفرد ذو التعليم العالي إلى أداة بيروقراطية في يدِ الدولةِ. والمتفحّص لهذا النسق الاجتماعي يلاحظ أن الإنسان بصفةٍ عامةٍ يحرص بشدةٍ على تأكيد مصدر رزقه، وحمايته دون المخاطر، حتى وإن اقتضى ذلك التنازل عن استقلالية الفكر داخل الإطار العام للنظام الحكومي، والإيمان بأساطير وعقائد عنترة في ظل غياب المؤسسات النقابية الفاعلة التي تحمي الموظف.

استدراكات:

تبدو الصورة المرسومة سوداء ، لكنها في حقيقة الأمر ليست كذلك. مع نهاية عقد التسعينات دخلت الدول العربية منظومة اقتصاد السوق والعولمة التجارية لتبدأ عملية الخصخصة لمنشآتها الحيوية بعدما أممتها في وقت سابق من القرن الماضي. ومع استمرار عملية الخصخصة تغير رب العمل من الدولة المتفحصة لأفكار موظفيها إلى مستثمر يهم بالانتاجية ولاتعنيه آراء موظفيه في النظام الحاكم. هذا التحول الذي طرأ على المجتمعات العربية حالياً بكثرة التوظيف في القطاع الخاص كفيل باعتقادي بإيجاد تغير مهم في العقلية المجتمعية في المدى المنظور. بل إننا بدأنا نرى بعض المظاهر العمالية لرفض الاستبداد في عدد من الدول العربية التي ولجت عملية الخصخصة.

انتشار الوعي والثقافة الجديدة بسبب التعليم ووسائل الاتصال الحديثة مع الأمم الأخرى كفيلة بتغيير مواقف الشعوب تجاه طبقة رجال الدين الرسميين. إضفاء الشرعية على الوضع القائم، وتحريم الدعوة إلى التغيير قد تقفد هذه الطبقة الاحترام من قبل عامة الشعوب. بل والخوف أن يفقد الدين ذاته الاحترام بسبب هذه الطبقة المحتكرة لاسم الدين. آن الأوان لرجال الدين أن يدركوا أن الأمي البسيط الذي كان يرقص طرباً على وقع فتاويهم المخدرة في الأزمنة الغابرة قد حل محله إنسان متعلم ازداد وعيه ولايكفيه قرص إسبرين كي يلين ويستكين.

لماذا هذه المقالة؟

يلاحظ المرء الأحداث التي تمر أمامه لكنه قد لايعير انتباهً لامتداداتها وتشعباتها في المجتمع واستمرارية الأحداث ذاتها. لهذا فلا أقل من الإشارة إلى ظاهرة عنترة الطاغية على الواقع والماضي العربي. القيم العالمية المعاصرة لاتدين ولاتقر بوجود عنترة بل تظن أن الحاكم ما هو إلاّ عابر سريع لسدة الحكم ليتركها لمن يأتي بعده ضمن سياق ديموقراطي عادل. يتمنى الكثير منا أن يفهم المتنفذون هذه القيم التي سوف يعتنقها العرب عاجلاً أم آجلاً.

عنترة بن شداد بين التوحيد والإشراك 2-3



الأسباب:

إن نشوء ظاهرة عنترة لاتعزى فقط إلى عامل واحدٍ، بل يمكننا الرجوع بها إلى عدة عوامل تظافرت وتتابعت على مرّ العصور لتنتج لنا هذه الخاصية المجتمعية التي أحسب أننا بتنا نتفرد بها على مستوى العالم.

1. طبيعة المجتمع والقيم البدوية:

إن المراقب لتركيبة المجتمع يشاهد دون أيّ ريبة غلبة الطابع البدوي والريفي على المجتمع. فالمجتمع عندنا يحتوي الثنائية المتناقضة (بدو وحضر). البدو بقبائلهم ومناطقهم الشاسعة في جغرافية المجتمع، أمّا الحضر فلهم أيضًا تلك الميزة من توافر محيط معينٍ لهم. الناظر لتاريخنا القريب جداً يرصد غلبة الطابع البدوي (مساحةً وسكاناً وتأثيراً) على هذه المجتمعات. أما الحضر فهو بتقديري ينقسم إلى قسمين متباينين في ذات الوقت: قسم يعيش ويسكن المدينة، معتمداً في زرقه على الصناعة والتجارة مع الداخل والأمم الأخرى، وقسم آخر يعيش في الريف ممتهناً الزراعة. يشير ابن خلدون في مقدمته إلى أن القسم الأول من سكان المدن هو أكثر ميلاً للانفتاح على الآخر، وهو أيضًا يعيش في محيط تداعى فيه النظام القبلي تداعياً كبيراً، فالقبيلة تختفي في المدينة وتنتهي عصبيتها. أمّا أهل الريف المزارعون فهم أقرب إلى البدو في نظامهم القبلي. إن هذه الثنائية التي يتميز بها أهل الحضر أضعفت تأثيرهم في المجتمع وهمّشته، وعليه همّشت دورهم وتأثيرهم الثقافي.

مال البدو – في أيامنا- إلى الاستقرار الحضري، لكن القيم والعادات الثقافية البدوية مازالت ماثلة في سلوكهم وعقليتهم وتصرفاتهم رغم تحضرهم الظاهري. يقول سيجموند فرويد في كتابه موسى والتوحيد: "إن جميع الشعوب المتمدنة الكبيرة بلا استثناء تقريباً قد عظمت في الشعر والأسطورة من باكر الأزمان أبطالها:الملوك، والأمراء الأسطوريين، مؤسسي الديانات أو السلالات الملكية أو الحواضر، وباختصار أبطالها القوميين". هذا التعظيم والتقدير الشديد يطابق واقع البدو الثقافي الذي يميل إلى التشبث وتعظيم وتقدير شيخ القبيلة، باعتباره رمزاً أبوياً لقبيلته وحصناً منيعاً ضد الأعداء. لهذا، فعند استقرار البدو يظل هذا الشعور وهذه العقيدة ثابتة لديهم ومعرضة بشدة للإنتقال والتوريث للأجيال القادمة. وما يساهم في تعزيز هذا الشعور هو انضواء الشيوخ التقليدين للقبائل تحت عباءة الشيخ الجديد للمجتمع المعاصر.

المميز في هذه الثنائية أن الحضر المشتغلين بالتجارة والمهن اليدوية والمشمولين بذلك الاحتكاك الحضاري مع الشعوب الأخرى لايميلون إلى الإيمان بأساطير القبائل بسبب عدم تعرضهم لبيئة القبائل وتراثها الثقافي بشكل كبير. لهذا فسكان الحضر لايؤمنون بعنترة إيماناً مباشراً إلاّ إذا ارتبط ذلك بمنفعة مادية كعادة التجّار دائماً. أما أهل الوبر فيتشبثون بتلك القيم ويورثونها إلى أبنائهم، وهذا ما يفسر دعم الحكام والمتنفذين لشيوخ القبائل مادياً وتدعيم سلطتهم المعنوية في محيطهم القبلي.

2. الدين:

مما لاشكّ فيه أن للدين خصوصية كبيرة في الواقع والنفسية العربية. أيضًا يمكننا القول أن الترسبات الدينية تساهم في تحديد مسار الوعي والإدراك لدى الفرد. وفي هذا الإطار يشير حسن حنفي في كتاب حوار المشرق والمغرب إلى تأثير حديث الفرقة الناجية على المجتمعات العربية، فهذا الحديث أدّى إلى تكفير وتخوين الفرق المعارضة للدولة. ولهذا لايحتكر المعرفة الحقة والصائبة في مجتمعاتنا إلاّ الدولة، وكل من عاداها فهو في النار. ومن نتائج هذه الثقافة إلغاء الحوار وقيمه الفكرية وعليه أُلغيت التعددية، وأوجبت أحادية الآراء والفكر. فصرنا نحافظ على وجود عنترة واحد لايمكن تكراره أو مخالفته.

وبظني أن التزاوج المحرم بين الدولة والدين وقع في عهد معاوية حين رفع المصاحف ليحتكم إليها، ثم يتخذها مرجعاً ظاهرياً لحكمه الراشد. ومنذ تلك اللحظة كان لكل حاكم حاشية من رجال الدين يضفون الشرعية اللازمة عليه ويتهمون تلقائياً المارقين عليه بالردة. ونتاجاً لذلك فقد انتهى الاجتهاد السنيّ في العصور المتأخرة من القرون الوسطى إلى الإجماع على تحريم الثورة ضدّ السلطان ووجوب طاعة وليّ الأمر مهما كان ظالماً أو فاسقاً كما يشير د.علي الوردي. وفي هذا يقول أحد الفقهاء:

وطاعة من إليه الأمر فالزمِ ... ... وإن كانوا بغاةً فاجرينا

عنترة بن شداد بين التوحيد والإشراك 1-3




هذا المقال تمت كتابته على فترات متقطعة ومستمرة، وحالما أقنعني نص المقال أرسلته إلى ملحق شرفات الثقافي بجريدة عمان التي رفضت نشره بعد مداولات مطولة. قررتُ حينها أن أنشره في إحدى الجرائد الخليجية إلاّ أنني أجلتُ الموضوع مراراً. أنشره اليوم في هذه المدونة وهي بطبيعة الحال مفتوحة للزائرين.
عنترة بن شداد بين التوحيد والإشراك
الكاتب: حمد الغيثي
توطئة:
يُلاحظ بشدة أن دول إقليم الشرق الأوسط تحوي خاصية مشتركة تتمثل باهتمامها المبالغ فيه بقادتها. هذا الاهتمام يقود في بعض أوجهه إلى إضافة صفات عظيمة إلى الطبيعة الإنسانية لهولاء القادة. لذلك فقلما تجد قائداً أو أميراً إن لم يكن شاعراً كبيراً، أو حكيماً شُهد له برجاحة العقل، أو فارساً مغواراً، أو رباً رحيماً عادلاً في بلده. ومع هذه النعوت والأوصاف لايمكن للإنسان أن يفكر في منقصة أو علة تعتري هولاء القوم، فأفعل التفضيل ترتبط بصفاتهم البشرية لتحولهم إلى ظاهرة خوارق قلما يشهد الزمان مثلها. هذه الصفات الخارقة تذكر بشخصية عنترة بن شداد ذلك الفارس النحرير والشاعر الخرافي والعاشق الرومنسي الذي ذاع صيته في جزيرة العرب قُبيل الإسلام. عنترة بن شداد تحول من مُجرد عبد وضيع إلى فارس القبيلة الأوحد وشاعرها الأفصح الذي يذبُ عن الحمى وعن الشرف الشخصي والقبلي في ذلك الزمان. مع مرور الأيام ترسّخت صورة عنترة في الذهنية العربية ترسخاً كبيراً، فليس هُنالك أشجع من عنترة، وليس هُنالك أشعر من عنترة، وهو أيضًا ذلك العاشق المُلهِم الذي ذاب من فرط عشقه في عبلة. استغل رواة الأخبار قصة ومسيرة حياة عنترة بن شداد ليحولوها إلى أسطورة كبيرة في الذهنية العربية، وليضيفوا عليها الكثير من الخوارق في مجال القوة والفروسية والنخوة والشرف، لحمايته عن عرض القبيلة، وذوده عن حماها، وهكذا تم بناء تلك الصورة المثالية عن عنترة لأبناء القبائل العربية لتتحول الصورة إلى إيمان مطلق بهذه الشخصية في المجالات المذكورة سابقاً.
معاصرة:
أطل علينا بعض الشعراء العرب المعاصرين بإنتاجات أدبية تسلط الضوء على هذه الصورة النمطية لعنترة التي صارت رديفة للإنسان الفريد في عصره. ومما لاغبار عليه أن هولاء الأدباء يشيرون إلى ذلك التزواج القائم بين خصائص سيرة عنترة العبسي وبين المستبدين العرب، فهم يملكون ما ارتبط في الذهنية العربية لعنترة من بطش، وقوة لانظير لها في المجتمع، ومن كرامات، ومعجزاتٍ خارقة، مع إيمان العامة لهم بذلك!المتتبع لمسيرة الأمم التي ابتُلت بالمستبدين يلاحظ أن هذه الأمم لم تفقد الوعي تماماً لتستسلم لأساطير عنترة بل هي لاتزال تملك تلك الروح الحية التي ترفض الواقع في سبيل التغيير.

الخميس، 21 أغسطس 2008

التلوث الإنساني


صحيفة الزمن العمانية لعدد 21\08\2008 تقول إن "استخدام الفحم موضع خلاف في ألمانيا". أقول للزمن أن قرار الحكومة العمانية باستخدام الفحم لتشغيل محطات الطاقة "ليس موضع خلاف وطني". فالوطن هو الحكومة والحكومة هي المجتمع. وكما يقول عزيز نيسين "تعيش الحكومة"!

تعيش الحكومة


قصة قصيرة للمبدع التركي عزيز نيسين، وهي من أجمل ما قرأته له:


لقد اصطاد رجل سمكة.. فسارع بها الى زوجته طالباً منها أن تقليها..
لكن الزوجة اعتذرت لعدم وجود زيت..
فقال الرجل لها: اشويها..
فاعتذرت الزوجة لعدم وجود ردة.. فطلب منها أن تسلقها..
فصرخت فيه الزوجة: لا نملك غازاً.. فحمل الرجل السمك وراح إلى البحر
وألقاها في الماء.. فهتفت السمكة:

(تعيش الحكومة).

الاثنين، 18 أغسطس 2008

ما هو الوطن؟


ما هو الوطن؟

يخطيء من يظن أن الإجابة سهلة وبسيطة. المتشردُ واللاجيء يسأل ما هو الوطن؟ والمسلوب الحرية في "وطنه" يسأل ما هو الوطن؟ وهل نصيبه من الوطن خفي حُنين؟

هل الوطن الأرضُ أم المباديء والقيم التي يؤمن بها الإنسان؟

إن كان الوطن أرضًا، فأيُ الأراضي هو، أرضُ المولد أم أرض المهجر أم أرض الممات؟

يسأل محمود درويش هذا السؤال الملح في "يوميات الحزن العادي" أثناء حصار بيروت في ثمانيات القرن الماضي. كان درويش فلسطينياً، لكنه طُرد من أرض المولد. اتخذ بيروت وطناً ليُطرد منها مجدداً مع عرفات وبقية الأصحاب. يقول درويش ما هو الوطن؟ ويجيبُ تلقائياً:

الخريطة ليست إجابة, وشهادة الميلاد صارت تختلف. لم يواجه أحد هذا السؤال كما تواجهه أنت منذ الآن والى أن تموت, أو تتوب أو تخون. قناعتك لا تكفي لأنها لا تغير ولا تفجر ولأن التيه كبير.. ليست الصحراء أكبر من الزنزانة دائماً، ومن أبسط الأمور أن تقول أيضاً: وطني حيث أموت..ولكنك قد تموت في أي مكان وقد تموت على حدود مكانين فماذا يعني ذلك؟وبعد قليل.. سيصبح السؤال أصعب.

**

أمل دنقل بدوره يحاول الإجابة على هذا التساؤل المحير. استحضر دنقل قصة ابن نوح عندما رفض الهروب إلى السفينة مفضلاً البقاء في الوطن. لا..لا..هذه الصورة ناقصة. أمل دنقل قصد نفسه في قصيدته، فجعل نفسه ابن نوح ذلك الأديب الصابر الذي لم يهرب من مصر عندما جاءها طوفان السادات كما فعل بقية الأدباء والمثقفين الذين هربوا إلى الدول الأخرى، عفواً إلى سفينة نوح. لقد ارتبط أمل دنقل بالأرض، حتى وإن هُدمت، وإن نهبت. كانت مصر وطنه، ومات على ذلك.

جاء طوفانُ نوحْ!

المدينةُ تغْرقُ شيئاً.. فشيئاً

تفرُّ العصافيرُ, والماءُ يعلو..

على دَرَجاتِ البيوتِ- الحوانيتِ - - مَبْنى البريدِ - - البنوكِ - - التماثيلِ (أجدادِنا الخالدين)-- المعابدِ - - أجْوِلةِ القَمْح - - مستشفياتِ الولادةِ - - بوابةِ السِّجنِ - - دارِ الولايةِ - أروقةِ الثّكناتِ الحَصينةْ.

العصافيرُ تجلو.. رويداً.. رويدا..

ويطفو الإوز على الماء, يطفو الأثاثُ.. ولُعبةُ طفل..

وشَهقةُ أمٍ حَزينة

الصَّبايا يُلوّحن فوقَ السُطوحْ!

جاءَ طوفانُ نوحْ.

هاهمُ "الحكماءُ" يفرّونَ نحوَ السَّفينةْ

المغنونَ- سائس خيل الأمير- المرابونَ- قاضى القضاةِ (.. ومملوكُهُ!) حاملُ السيفُ - راقصةُ المعبدِ(ابتهجَت عندما انتشلتْ شعرَها المُسْتعارْ)- جباةُ الضرائبِ - مستوردو شَحناتِ السّلاحِ - عشيقُ الأميرةِ في سمْتِه الأنثوي الصَّبوحْ!

جاءَ طوفان نوحْ.

ها همُ الجُبناءُ يفرّون نحو السَّفينةْ.

بينما كُنتُ..

كانَ شبابُ المدينةْ

يلجمونَ جوادَ المياه الجَمُوحْ

ينقلونَ المِياهَ على الكَتفين.

ويستبقونَ الزمنْ

يبتنونَ سُدود الحجارةِ

عَلَّهم يُنقذونَ مِهادَ الصِّبا والحضارة

علَّهم يُنقذونَ.. الوطنْ!

.. صاحَ بي سيدُ الفُلكِ - قبل حُلولِ

السَّكينة:

"انجِ من بلدٍ.. لمْ تعدْ فيهِ روحْ!

" قلتُ: طوبى لمن طعِموا خُبزه.. في الزمانِ الحسنْ

وأداروا له الظَّهرَ

يوم المِحَن!

ولنا المجدُ - نحنُ الذينَ وقَفْنا

(وقد طَمسَ اللهُ أسماءنا!)

نتحدى الدَّمارَ..

ونأوي إلى جبلٍِ لا يموت

(يسمونَه الشَّعب!)

نأبى الفرارَ..

ونأبى النُزوحْ!

كان قلبي الذي نَسجتْه الجروحْ

كان قَلبي الذي لَعنتْه الشُروحْ

يرقدُ - الآن - فوقَ بقايا المدينة

وردةً من عَطنْ

هادئاً..

بعد أن قالَ "لا" للسفينهْ

.. وأحب الوطن!

الخميس، 14 أغسطس 2008

وهم الحقيقة




قلتُ: يا صاحبي الصاحي إن المشكلة وصلت بعداً مثيراً للقلق!

قال: آه، حقاً.. هناك مشكلة ستطيح بك.

قلتُ : هي لن تطيح بي، لكنها ستجعل العُتمة واضحة جدًا!

قال: نصحتك سابقاً بأن تقرأ "قصة الإيمان" لنديم الجسر.

قلتُ: حتى قصة نديم الجسر لم يؤلفها هو، بل أُلقيتْ إليه من طرفٍ خفيٍّ كما قال الجسر.أنت تذكر أنّ صديقنا البائد ابن رشد ذكر أن الفلسفة هي خادمة العقيدة،وهي طريق الإيمان الآخر.

قال: نعم، قال ذلك ابن رشد باعتبارِ أنّ الفلسفة هي أم العلوم! لكن يا صديقي الأمور تغيرت كثيراً منذ ذلك اليوم. أليس كذلك؟

قلتُ: لهذا أنا مشوشٌ جداً، وأرى الضبابية في كل مكان. انظر الفلسفة كأنني لا أراها هي الفلسفة، والعلم كذلك. لقد بات العلم ينفصل عن الإيمان، ولقد صار قادراً على تقديم التفسير المُبرهن!
قال: المُشكلة الأخرى يا صاح.. أنّ الدين بدأ ينزلق نحو قضية خطيرةٍ جداً:
إنَّ الدين بدأ يعتمدُ على التفسيرات العلمية لإثبات كينونته وقُدسيته!

قلتُُ: وهُنا رمى الدين نفسه من اليقينيات إلى العقليات، بل كأنهُ نزعَ المُقدس إلى المُقاس والمنظور!
قال: وما موقفكَ أنت الآن؟!
قلتُ: كما أخبرتكَ سابقاً، مذبذب، بين وهم الحقيقة، وحقيقة الحقيقة! لقد اختلطت الدروب عليّ.

"كل صباح وأنت مبارك" نموذج للأدب الساخر




مقاطع من كتاب بلال فضل "قلمين"..



(1)
أتعجب كثيرا من الكتاب العرب الذين يسخرون من كون السفاح شارون يعيش بخصية واحدة بعد أن فقد الأخرى في إحدى حروب العرب مع إسرائيل. الأولى أن يشعر هؤلاء بالخجل لأن شارون يفعل كل هذا بنا.. بخصية واحدة!
(2)
دراسة مستقبلية إسرائيلية كشفت أن إسرائيل ستنهار من الداخل خلال 20 عاما. حلو قوي.. هنكون بقى لنا عشر سنين قد انهرنا.
(3)
مات جمال عبد الناصر وهو يدعو شعب مصر لأن يلبس مما يصنع، ويعيش حفيده جمال أشرف مروان من خير قناة ميلودي التي تدعو شعب مصر لأن يقلع ما يلبس! (ملاحظة: جمال أشرف مروان هو ابن الدكتورة منى جمال عبد الناصر، وصاحب قنوات ميلودي).
(4)
حتى منتصف الثمانينات كان المثقف المصري يحلم بتغيير العالم.. الآن يحلم المثقف المصري بتغيير عربيته!
(5)
رئيس تحرير صحيفة قومية كتب أن الرئيس بوش الأب بعد أن ترك الرئاسة قال إن صداقته بالرئيس مبارك هي الشيء الوحيد الذي سيأخذه معه إلى القبر. أنا شخصيا أصدق ما كتبه الكاتب إياه، وسر تصديقي يرجع إلى يقيني بأنه حتى في أمريكا هناك من يؤمن بعذاب القبر!
(6)
س: يحرص أي وزير داخلية عربي على شرب الشاي بعد كل وجبة.. ليه؟
ج: عشان.. بيحب «يحبس»!
(7)
في عهد شيخ الأزهر الدكتور العلامة محمد سيد طنطاوي أصبح «نفق» الأزهر أهم من الأزهر نفسه! (نفق الأزهر: معبر سيارات شهير تحت الأرض لتلافي الزحمة المرورية قرب الأزهر).
(8)
يحسب للرئيس مبارك أنه حكم مصر وهي تتحدث عن نفسها.. وبعد ربع قرن من الحكم جعلها تتحدث مع نفسها!
(9)
يقال أن جرادة شوهدت تضرب زميلتها بالشبشب، وعندما تدخل ولاد الجراد لفض الخناقة قالت لهم الجرادة الضاربة: «تصوروا الحشرة دي ما حرمتش، عايزانا نرجع مصر تاني»!
(10)
أصبح سيل الفتاوي الذي ينهال على برامج الفضائيات أمراً يدعو للسخرية المريرة. لا أستبعد أن نسمع قريبا أحداً يسأل: ما حكم الانفراد بحارس المرمى؟ وهل يعتبر خلوة شرعية؟ وما هو حكم حمل حامل الراية؟
(11)
كدت أنفجر من الضحك عندما قرأت أن محادثات الرئيس مبارك مع الرئيس الروسي بوتين شملت التعاون في مجال الفضاء. فكل علاقتنا بالفضاء إننا بلد دماغها فاضية!
(12)
سألني: إنت ليه مش فارق معاك تعيين نايب للريس؟ قلت له: عشان كفاية النايبة اللي إحنا فيها!
(13)
ليست المشكلة أبداً أن نطالب بالإفراج عن المعتقلين داخل السجون، المشكلة الحقيقية أننا لا نطالب بالإفراج عن المعتقلين خارج السجون!
(14)
أتعجب من بعض أصدقائي الذين يكتبون مطالبين بعض المسئولين بتقديم إقرارات ذمة مالية. واحد ما عندوش ذمة يقدم لها إقرار إزاي؟
(15)
في مصر جميع الحقوق محفوظة.. في ثلاجة القيادة السياسية!

بكائية ليلية



"البكائية" هي إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل التي أفلتت من زحف الزمن عليها لتبقى راسخة في الذاكرة الجمعية، حتى وإن بدا أن الغبار يتجمع فوقها. هل الرصاصة الأولى هناك أم هُنا؟ سؤال محير جداً في ظل تجاذب متعدد الأقطاب، هناك من تعنيه عزة الوطن، وهناك المعنيُ باستمرارية الوضع القائم مهما كان بسبب مصلحته الخاصة، وهناك أيضًا من رأى تكالب الأعداء حول هذا الوطن فأراد أن يدافع عنه ولو برصاصة يائسة أو كلمة عارية، لهذا "فالبكائية الليلية" لمازن جودت أبي غزالة الذي فضل الرحيل إلى صحراء النقب شهيداً، ليدافع عن وطنه الفسيح، عن مقدسه، وليدافع عن الحرية المسلوبة:

بكائية ليلية
للوهلة الأولى
قرأتُ في عينيه يومَه الذي يموتُ فيه.
رأيتُه في صحراء (النقب) مقتولاً...
منكفئاً.. يغرز فيها شفتيه
وهي لا تردُ قبلةً لفيه!
نتوه في القاهرة العجوز, ننسى الزمنا
نفلت من ضجيج سياراتها, وأغنيات المتسولين
تُظلُّنا محطةُ المترو مع المساء... متعبين.
وكان يبكي وطناً...
وكنت أبكي وطنا نبكي إلى أن تنضب الأشعار
نسألها: أين خطوط النار؟
وهل ترى الرصاصة الأولى هناك... أم هنا؟

كش شعر




هوية




هذه المدونة هي ليست الأولى التي تزورها، ولن تكون الأخيرة. ربما تجد المتعة هُنا، وربما لن تجدها. لكنك ستجدُ أشياء أخرى صالحة للقراءة. وأنا أعيد رسم هذه المدونة أظن أنها ستقول أشياء متنوعة، ستحاول أن تكون شفافة قدر الإمكان، لكن الأيام ليست كذلك دائماً. إن رأيت ما يعكر مزاجك هُنا فاستخدم "لسان العصر" الكيبورد، اكتب ما يخطر ببالك حول المدونة.