الأربعاء، 22 ديسمبر 2010

كريج فنتر: حياة مفكوكة الشفرة


مثل علم الأحياء الحديث أحد أبرز الاسثتناءات في نظرية توماس كون حول تاريخ العلم وتطوره. فحتى أعمال تشارلز داروين وجوريج مندل التأسيسية التي نشرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر رافقها جدل استمر لقرن كامل. العديد من الاكتشافات والانجازات العلمية في الأحياء أشعلت ثورات صغيرة -ومهمة- أسست لتطور خطي، عوضاً عن الثورات الجذرية التي أرخها توماس كون في العلوم الأخرى. الجدل السابق يستمر مع كريج فينتر، صاحبنا هنا، عالم الوراثة الذي أشعل ثورات -لاتزال مشتعلة - أرخ لها في كتابه حياة مفكوكة الشفرة. 

حياة مفكوكة الشفرة ( A Life Decoded) هو كتاب سيرة ذاتية كتبه فينتر يؤرخ طفولته، مراهقته، حرب فيتنام، الاختيار بين الطب والبحث العلمي، البحث العلمي، إنجازات الأدرينالين، الـ EST و"عشوائيةفك الشفرة الوراثية، حرب الجينوم، الجينوم البشري، رحلة الساحرة، مشروع الخلية المصنعة. سيرة شيقة لمبدع متمرد لا يتردد عند المخاطر.

المحطة الأولى المهمة في حياة فينتر كانت في فيتنام -التي التحق بها ككادر طبي- حينما هرب من المعسكر باتجاه المحيط. خطط أن يسبح حتى ينهك، ثم يموت غرقاً. كادت أن تقتله مشاهد الحرب -وليست الحرب-: الجرحى، سلوك الجنود الأمريكان، الموت المجاني. لكن في منتصف طريق الانتحار، تراجع فينتر إلى اليابسة. اكتشف في نفسه شجاعة لمواجهة الحياة، الحياة البائسة. لو مات، سيكون جباناً هارباً، ولو عاش فبإمكانه المساعدة في خلق ظروف أفضل.

لهذا كانت خطته المنطقية أن يلتحق بكلية الطب في جامعة كاليفورنيا، ثم يرجع طبيباً لفيتنام لمساعدة أهلها. ولكن تتغير الخطط بتغير أحداث الحياة. معادلة رياضية بسيطة تؤكد أن تأثير الطبيب محدود بمقابلته للمرضى فراداً، لكن تأثير البحث العلمي يمكن أن يشمل البشرية. كان موضوع أبحاثه في الماجستير والدكتوراة هو هرمون الأدرينالين: طريقة عمله، متسقبلاته الخلوية، وتركيبها. وكلما كانت شهية فينتر أكبر لتحدي المجهول (ثم المستحيل لاحقاً) كانت إنجازاته أكبر.

لم يتردد فينتر، بعد الدكتوراة، أن يغير جهات عمله عدة مرات، باحثاً عن المساحة والدعم والبيئة الأفضل. كان ينقل مختبره وطلابه معه. وفي الثمانينات تمكن فينتر أن يحدد السلسلة الوراثية للجين المسؤول عن المستقبل الخلوي للأدرينالين، والبنية الهيكلية لبروتين الأدرينالين. قادت هذه الإنجازات المهمة فضوله للتساؤل عن إمكانية تطوير طرق أسهل لحل الشفرة الوراثية، وتحديد جينات الكائن الحي. 

التساؤلات السابقة وضعت فينتر في قلب الجدل حول مشروع "الجينوم البشري". ذلك المشروع الذي بدا حينها مستحيلاً بسبب قصور التكنولوجيا المتاحة عن ذلك. لكن في التسعينات طور فريق فينتر طرقاً جديدة. الأولى: لتحديد الجينات المسؤولة عن إنتاج البروتينات (طريقة EST)، الثانية: لقراءة الشفرة الوراثية من خلال دمج "العشوائية" وتصميم برامج حاسوبية لتطوير الطرق التقليدية لفك الشفرة الوراثية. ولما وجدت أفكار فينتر معارضة شديدة من زملائه في معاهد الصحة الوطنية الأمريكية -جهة عمله-، قدم استقالته ليؤسس -بتمويل من القطاع الخاص الأمريكي- أولاً معهد النمر (TIGER)، ثم ثانياً شركة Celera Genomics. تمكن معهد النمر من فك الشفرة الوراثية لأول كائن حي في التاريخ، بكتيريا الـ (Haemophilus influenza). أما في سيليرا فقد تم بداية فك الشفرة الوراثية لذبابة الفاكهة (أحد أهم النماذج البحثية في الأحياء) عام 2000، ثم تم إعلان الإنجاز التاريخي وهو فك الشفرة الوراثية للإنسان من البيت الأبيض بمعية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون عام 2001.

بالرجوع سنوات للخلف، كان الجدل محتدماً بين العلماء حول إمكانية فك الشفرة الوراثية للإنسان. لكن جرى الاتفاق لاحقاً على خوض المغامرة بالتكنولوجيا المتاحة. تبنت المعاهد الوطنية الأمريكية للصحة المشروع، ووعدت بإنجازه خلال عشر سنوات، مع توفير ٣ مليارات دولار كاعتمادات مالية من الكونجرس الأمريكي، وتعاون بحثي من بريطانيا. لكن شركة سيليرا بقيادة كريج فينتر أعلنت أيضًا أنها ستنجز المشروع خلال مدة قصيرة لن تتجاوز السنة، وبرأسمال لا يتجاوز ٣٠٠ مليون دولار أمريكي. بين المشروعين نشأ ما عرف بحرب الجينوم. اتهم فينتر منافسيه بقطع الدعم المالي عن أبحاثه، وبتجاهل التكنولوجيا التي طورها أساساً خلال عمله في معاهد الصحة الوطنية. أما منافسيه فقد اتهموه باحتكار الجينات المكتشفة لشركات التقنية الحيوية (ممولوا أبحاثه)، واتهموا التكنولوجيا التي طورها بعدم الدقة، وأنها لن تعمل لفك شفرة الإنسان. الهجمات المتبادلة بين الفريقين احتلت عناوين أبرز الدوريات العلمية، والصحف اليومية في الولايات المتحدة وأوروبا. في سيرته الذاتية يسرد فنتر أن الخوف من تجريب الأساليب الجديدة، والبيروقراطية، وعدم وضع العلم كأولوية، والخوف على السمعة الشخصية كانت من أهم الأسباب التي قادت "علماء الحكومة" إلى نبذه، ثم محاربته. 

بعد إنجاز مشروع فك الشفرة الوراثية للإنسان اتجه فينتر للقيام برحلة بحرية حول العالم على متن قاربه الساحرة Sorcerer. كان الهدف هو تسجيل التنوع الوراثي للكائنات الحية في البحار والمحيطات المفتوحة. أما النتيجة الأساسية فكانت إضافة أكثر من 20 مليون مورثة (لم يرصدها الإنسان من قبل) لقواعد البيانات. رصدت رحلة فينتر اختلاف أنواع الكائنات الحية باختلاف البحار، واكتشفت عمليات أيضية جديدة تقوم بها الكائنات الدقيقة للحصول على الطاقة غير التمثيل الضوئي. 

يأمل فينتر من العدد الهائل من المورثات وقواعد البيانات، بعد ما يقارب ٤ مليارات سنة من ظهور أول خلية حية على الكوكب، أن يتم استخدامها في تصميم خلايا مصنعة تقوم بوظائف مختلفة. أعلن قبل عدة شهور فريق فينتر العلمي تصنيع أول خلية حية: حقنت خلية بكتيرية بمادة وراثية مصنعة تماماً، وتم التخلص من مادتها الوراثية الأصلية. ثم بدأت المادة الوراثية الجديدة بالعمل، لتتغير خصائص الخلية البكتيرية بما يناسب المادة الوراثية الجديدة. النتائج المرتجاة من الخلايا المصنعة: أمصال سريعة ورخيصة، إنتاج الوقود من الميكروبات، معالجة مشكلة التلوث إلخ.

فينتر يعلق في آخر صفحات كتابه: جاء الوقت الذي تكتب فيه مادة وراثية شفرة وراثية على جهاز الكمبيوتر، أو جاء الوقت الذي يكتب فيه السوفتوير الهاردوير!

الأحد، 17 أكتوبر 2010

أول خلية حية مصنعة

أول خلية مصنعة

"ليس كائناً مستنسخاً، ولا معدل وراثياً. إنه كائن حي مُصَنع مخبرياً"، قال أحد المتابعين.

بعد 15 سنة، واستثمارات تقدر ب 40 مليون دولار، وجهود فريق مكون من 23 عالم في معهد كريج فينتر، أعلن يوم الخميس 20\05 إنتاج أول خلية حية مصنعة في تاريخ البشرية.

الكشف العلمي الأخير يماثل اللحظات المفصلية في تاريخ الإنجازات العلمية للإنسان. دعونا نعيد قول رائد الفضاء الأمريكي نيل أرمسترونج -بتصرف-: خطوة مهمة لمختبر كبيرة للبشرية.

سرد كريج فينتر في مؤتمره الصحفي المحطات الكبرى في المشروع منذ بدايته كفرة عند كريج، حتى اللحظات الأخيرة. حرص الفريق البحثي على القيام باستشارات أخلاقية وسياسية وأمنية في كل تلك المحطات. وراقب العالم في السنوات الماضية النجاحات الجزئية المتكررة لفريق كريج حينما أعلنوا إنتاج فيروس مصنع عام 2003، ثم نجاحهم في نقل كروموسوم كامل من نوع حي لآخر. وفي عام 2008 أظهر الفريق نجاحه في إنتاج أول كروموسوم اصطناعي شبيه بكرموسوم إحدى الأنواع الميكروبية. وأخيراً نجح الفريق في نقل وتشغيل الكروموسوم المُصَنع إلى خلية بكتيرية M.mycoides منزوعة المادة الوراثية. يحوي الكروموسوم المصنع أكثر من مليون شفرة وراثية، ويقوم الكروموسوم المصنع بأداء الوظائف الاعتيادية للكروموسوم الطبيعي.

يقول كريج فينتر في مؤتمره الصحفي: قمنا بالمشروع لفهم أسس عمل الجينات. وعندما سئل عن التطبيقات الأخرى للإنجاز، أجاب أنه سيقود لتحول فلسفي في النظر لمفهوم الحياة، وسيجعل صناعة أمصال جديدة للميكروبات لا تتعدى اليومين عوضاً عن الشهور العديدة حالياً، وسيساهم في إنتاج ميكروبات تساند الإنسان في تنظيف البيئة وإنتاج الطاقة المتجددة.

يورد تقرير نشر في مجلة ساينس SCIENCE العلمية أن معهد كريج فينتر طالب ببراءات اختراع للتقنيات المستخدمة في اختراعه الأخير. وقد يؤدي هذا إن تكلل بالنجاح لقيام احتكار في تقنيات "الحياة المصنعة".  لكن اختراع كريج سيطلق حمى التنافس العلمي مجدداً بين تحالفات المراكز البحثية العالمية التي تسابق الزمن لإنتاج تقنيات جديدة في مختلف المجالات.

أورد كريج فينتر في مؤتمره العلمي أن الهدف التالي له سيكون إنتاج طحالب مصنعة بمواصفات معينة. وتنشطُ حالياً مجموعات بحثية متنوعة لإنتاج الجيل الثاني من الطحالب المستخدمة في إنتاج الوقود الحيوي. وينتظر من هذه الطحالب استهلاك غاز ثاني أكسيد الكربون المنتشر في الغلاف الجوي كمصدر للكربون في الوقود المنتج. سيحل هذا مشكلة تواجد الكربون بمعدلات مرتفعة في الغلاف الجوي، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري لإنتاج الطاقة.

وبين هذا وذاك، قد نستشرف كدول عربية مستقبلاً مجهولاً . إذ أن الفجوة الصناعية والتكنولوجية التي فصلتنا عن ركب الأمم المتقدمة سيضاف إليها فجوة حيوية أو أحيائية، سيكون من سماتها استيراد الأمصال واللقاحات، والطاقة المتجددة، وربما ستكون هناك أسلحة بيولوجية فاعلة خصوصاً مع توجيه بعض الناشطين انتقادات لفينتر كريج وفريقه العلمي بهذا الخصوص، وتنسيقه المستمر مع الجهات السياسية والأمنية بالولايات المتحدة.


الاثنين، 30 أغسطس 2010

عرض لكتاب سفر المنظومات



صدر كتاب "سَفَر المنظومات"عن دار الانتشار العربي للكاتب العماني عبدالله المعمري عام 2009. يقع الكتاب في 122 صفحة من القطع الكبير، ويحتوي على دراسة تحليلية تاريخية لمنظومة الجوهر والعرض عند الشيخ أبي بكر أحمد بن عبدالله الكندي المتوفى 557 هـ.

الأربعاء، 7 يوليو 2010

وادي صلان



كتابةٌ على حَجَرٍ بنصل حاد، لن تمحى. كتابة كبيرة تملأ الأبْعَاد والأجزاء. مسحَ عرقه، وانتصب. انتصبتْ الشمس في كبد السماء. فعلوا كما فعل، على الصخور والعظام المتبقية. جمعوا الأجزاء: بناءٌ يتسعُ كل حين. لا شيء يقلقُ الكون سوى القلق في قلوبهم: لقد أتعبوا.

*****

وجدتها على الشاطيء. كبيرة كانت ومتحجرة. صدفتاها جامدتان، لا تنفتحان حتى تحت الضغط الشديد. شكلها الغريب دفعني لأخذها للمختبر. رأيتُ خيوطاً منتظمة تخرجُ أفقياً من نقطة فيها، ثم تنتشرُ في كل ربقة. لا تلبث الخيوط حتى تنكسرُ لتأتي عمودياً على الخيوط الأفقية. لم تكن الخيوط العمودية مكتملة. ولم ألحظ في المرة الأولى أنها كانت تكتمل.

لم تكن صدفة كما خيل لي. كانت حجراً به تشكلات رسوبية تشبه صدفة المحار. لونها الأبيض ذي الطيف الأحمر أوحى لي بذلك. على جدارِ الصدفة الداخلي رسوم ثلاثة ونقش عتيق. آه، كم كنتُ غبياً عندما ضيعتُ وقتي في المختبر. حسبتُ أني أرَى ما تحتْ المجهر. لم يكن إلا رمزاً أو خيالاً أو قصة.

*****

جماعة طويلة تدخلُ التاريخ، تلاحق الشفق. يرتحلون شرقاً. يسيلون خيوطاً من بعيد، يتجمعون تحت كرة الشمس كأسراب الطيور ثم انقضوا حيث مضى بهم. أمامَهُم كان من روضَ الخيل وانطلق في رحلة قومه. ليس قديماً أو حديثاً. رجلٌ وسط عمره. ظل هكذا أحقاباً مديدة. لم تتبدل ثيابه: رداء من صوف، ورقعٌ اشتقت من جلد جمل كانت في قدميه، ونصل حاد تحول لسيف صقيل في الآباد القادمة. تبعوه عبر الصحاري والسهوب التي بلعها التاريخ في دورته الأخيرة.

"كُلُهُم تحتُ هذا الماء".

كان اسمه دومن ذغيمن. بنى بيته على السفح، من سعف النخيل إلا أن سقفه المفتوح يتداخل مع السماء. جعل نصله التماعة الشمس، وزَرَعَ الشجر، وفرق الليوث والجوارح والفئران والماشية في المراعي.  سكنت بيته قبائل وممالك عديدة. كانوا كلهم أبناءه. اكتمل علمه وقوته، فصنع أول ساعة. ساعة كبيرة ، وضعها على الجبل.
سئله أهل الوادي: لم الساعة؟
“الساعاتُ تؤخر الوقت”، قال دومن ذغيمن.
تناسلتْ البيوتُ تحت بيته. وصلت هنا على البحر، وامتد الوادي حتى هُنا. نشأ ميناء، وصنعوا سفينة ثم ركبوا البحر وأتوا. كرروها مع السنين حتى ذهبوا ولم يأتوا. ضرب دومن بعصاه. البيوتُ اختفتْ، والبحر صار مالحاً، لكن الوادي مازال يصبُ في البحر. الساعة ظلت تدورُ في أبعادها، والأبعادُ تفترقُ كل لحظة.

***

أخذتها للمكتبة الشرقية: مجلدات عتيقة كتبها العربُ الأوائل، ونقوش مسندية تعود للحميرين الجنوبيين، ورحلاتُ المستشرقين، وكتب الأسرار القديمة إلى جانب كتب اللغة وتكون الاستعارات. مكثتُ هناك بالمجهر والعدسة المكبرة. أقرأ وأرى في الصدفة. “إنها ملأى بالرموز والاستعارات”. يتدفقُ الضوء من العدسة المكبرة، وينهمرُ في الصدفة. تجذبه بشكل متسارع حتى يغيبَ الضوءُ فيها، وأبقى وحيداً في الصدفة.

هناك كتابةٌ على حجر، ونصل حاد يتحول رويداً لسيف صقيل ثم لمدفع، وساعة تؤخر الوقت، ومجنزرات هندسية تحركُ الكون بشكل غير منتظم تختلطُ معه الأبعاد، واستعارةٌ كبيرة اسمها الوقتُ يُختَلقُ فيها معنى الزمان، وميناء يغرق في البحر، ولغة تحولها المجنزات إلى جسد أثري. يا عَالَم الصَدَفَةِ النابض، يا عالمي البائس: أين أنا؟.“حمدم وشكرم أولدم إل مقه” نقش على صدفة البحر. دومن ذغيمن من نزل صلان.

***

غبارٌ ينسكبُ على ورقة، ورمل يتوالد على شقٍ صغير في حَجَر يتحول ببطءِ الكون إلى محارة. وريح عاتية تنبعث من كتاب. لا مجال للشك في ما يُرى. لكنهم لم يروا، فقد ماتوا حقاً.

****

أربعون سنة قد مضتْ منذُ أتيتُ للدنيا، أربعون سنة منذ ارتيادي هذا الشاطيء كل يومٍ أبحثُ عن السرِ. “انظروا صدفة كبيرة”، قلت لهم. لم يروها. يظنونَي أهبلاً مجنوناً. لن يراها أحدٌ كما أراها أنا. اختفت في الصدفاتِ الحقيقةُ. “يرى الشيخُ كل شيء”. لستُ شيخاً، لكني أشيبُ الشعر منذ الطفولة. هَرِمُ المظهر رغم الأربعين. لقد استدار الزمان دورته.

****

أبحثُ عن ورقة للترجمة فلا أجدْ، لكنها تقرُ في ذهني. ذلك الذهن العجيب، وعاءٌ يملأه ماءان: عذب ومالح. تملأه كلمة أو لغة. كلمة من بحر ووادي في ظلمة كثيفة. حينما يستديرُ الزمان لا تجدهُ، لكن تفقدُه بالمُطلق. كلمةً فكلمةً: الحمدُ والشكرُ..

***

على جدارِ الصدفة: رسوم ثلاثة ونقش عتيق. دومن يرسمُ النقش وحوله أهل صلان، دومن يُغْرِقُ صلان تحت مياه البحر، ودومن يتربصُ بصلان الناشئة لتغيبَ تحت المياه. رسومٌ ثلاثة لا تلتقي. أبعاد مختلفة في الزمن. صدفة كتبها دومن تكون نقطة الالتقاء، وبها يعتدلُ الوقت.

****

وقتُ الشفق: شمسٌ غاربة في البحر ربما للمرة الأخيرة، ودومنُ يجلسُ القرفصاء بقرب أولاد يلعبون الكرة لا يرونه، ويهمسُ بما في الصدفة من رموز لكن بلسان أهل هذا الزمن. أسمعه جيداً، لقد استدار الزمانُ دورته. يأتي الصوتُ من الموجِ: الحمدُ والشكرُ أولاد المقة، الحمدُ والشكرُ. وهناك من الشفق سيارة تأتي من بعيد، من الشفق، تنقذ صلان. لكن، أتصلُ قبل الغروب؟

الاثنين، 24 مايو 2010

الأحمر والأصفر .. استقراء



أقدم هنا وجهة نظر حول رواية حسين العبري الأخيرة: "الأحمر والأصفر". أعتقد أن للرواية بنية منطقية، تطغى بشكل موارب على بنيتها الأدبية. إلا أنها، وفي سبيل شكلها الأدبي، اتسمت بأحداث متعددة (مُرمزة) تضمرُ المنطق خلفها. أعتقدُ أن القرية الجبلية في رواية الأحمر والأصفر كانت رمزاً لهذا البلد، وسالم: لم يكن مراهقاً عبقرياً، بل رمزُ من يعمل تفكيره وفق المنطق الرياضي. وعليه أعتقد أن الفصل الأول لم يكن إلا مقدمات رياضية قياسية، وتضمن الفصل الثاني النتائج، وهي نتائجُ متوقعة في معظمها.

ينبغي التوقف قليلاً مع العبقرية التي مهد لها السارد في بداية المقدمة بدقة لأنها المفتاح لفهم إيحاءات الرواية. إنها عبقرية فريدة. فهي عبقرية لم يستمدها البطل من المكان أو الزمان أو الجينات أو التربية. حاول السارد نفي أية مصادر محتملة للعبقرية التي تحلى بها البطل، والتأكيد بشكل متوازٍ على "عاديته" مع أقرانه في القرية. والقرية، إنها تلك القرية فوق جبال الحجر، قرية معزولة عن العالم، تنعم في وداعة الاستقرار والهدوء.

البطل يشبه أقرانه في كل شيء، باستثناء مقدرته الفذة (المستمدة مع عبقريته) على التجريد والتفكير الهندسي الشكلاني. تجلى هذا في الخطوط الهندسية البارزة التي يسيرُ عليها تفكير البطل في علاقاته مع زميليه العمانيين، وفي استقراءاته للموسوعة التي حصل عليها، ورؤيته للأجسام من أعلى كأشكال ذات حدود خارجية، خطوط هندسية تملأ الفراغ لتعطي كتلة أو أجساماً (أو أية كميات فيزيائية أخرى). وهذه البنية الرياضية في التفكير لم تكن جامدة بل ديناميكية متغيرة. فسالمُ يتعلم من خلال المشاهدات والأزمات. عقله قائم على التأمل ثم التحليل واستخلاص النتائج. تكرر هذا في أحداث اختياره لأصدقائه، ثم وقوعه في الغرام ومقارناته بين محبوبتيْه، والمشاكل في المدرسة، وعزلته التأملية عقب العقاب الذي حل به.

أما المجتمعُ المطمئن المعتاد، فمثله الأصدقاء وأهل القرية وبقية الشخوص المتشابهة في جوهرها. ولربما صوره بدقة بالغة الأستاذ زاهر صاحب الموسوعة التي ملكها لكنه لم يقرأها، أي لا يستفيد مما فيها. وإمعاناً في المعنى يقول السارد إن الموسوعة ليست ملك ذلك الأستاذ، إنما تعود لأخيه المغترب في الولايات المتحدة. ويمثل هذا إيحاءً آخر أن شخوص الرواية (باستثناء البطل) والقرية لم يمثلوا إلا المجتمع العماني الساكن والمستقر، وأن المناهج التفكيرية متوفرة، لكن لا يتم الاطلاع عليها. والبطل سالم لم يكن رمزاً لمراهق عبقري كما يبدو للوهلة الأولى بل كان رمزاً لمن يرى من أعلى، أو لمن يرى ما لا يُرى، أو لمن يقوم بعمليات تفكيرية تشملُ التجريد والتعميم الذهني. وبطبيعة الحال لا تعنينا هنا الأفكار التي توصل إليها سالم، لا لأنها لا تهمُ بحد ذاتها، لكن لإنها نتيجة لعملية تفكيرية ميكانيكية. والعبقرية التي وُسِمَ بها البطل، لم تأتِ بسببِ طبيعة الأفكار، لكن بسبب طبيعة التفكير. فالفكرة متوفرة دومًا (قد تكون في "التهافت" أو "تهافت التهافت") لكن لن يكون صاحبها بالضرورة أبي حامد أو ابن رشد. 

الرواية تنقسم لمقدمة أو فصل أول (بها النظرية، أو الإعداد، أو صناعة البطل وطبيعة عملياته الذهنية)، وتطبيق أو نتائج سماها المؤلف الفصل الثاني، فيهِ يُرمَى البطل لمسرح الأحداث، ليؤكد الأسس التي ينطلقُ منها. هذا الانقسام هو تقسيم علمي، رياضي: مقدمات ٌ، ثم البرهان.

لكن هناك نقطة شاذة. موقف لا يجد مكاناً في وجهة النظر هذه. إن سالم الذي تتكيء عبقريته على التفكير الرياضي تفاعل إيجابياً مع محنة الخادمة التي كانت تتعرض للاغتصاب. أحس بالمسؤولية وحاول المساهمة في رفع الظلم عنها عبر تهديد مغتصبها بالفضيحة. ولم أجد مكاناً لهذا في عقل سالم. لربما كانت ردة فعل سالم غير عقلانية في ذلك الموقف، أي أنها لا تصدر عن عملية تفكير عقلية. ولكنه تصرف وفقاً لتفكيره المعهود عندما تعرف على زوجة المتغصب، وقرر تعميق المعرفة أكثر مما يسمح العرف.

****

أسلوب الميتاقص لا يوهم بالواقعية في السرد عادة. فالكاتب يخبر القاريء أن ما سيقرأه هو قصة أو مذكرات أو أشياء مفتعلة. لكن السارد العليم في "الأحمر والأصفر" كان يوهم بالواقعية رغم استخدامه أسلوب الميتاقص عبر تلاشيه أثناء الرواية، ليتوحد مع الفتى سالم في السرد، ولينطق بحاله وتفكيره. وإذا قرنا هذه الملاحظة مع الشاهد في رواية الوخز فنستنتج حينها أن الراوي الخارجي العليم في الرواية هو تطور محتمل للشاهد، أي أن الرواي العليم أو الشاهدُ يعبر عما لا يستطيعُ البطل التعبير عنه مباشرة، أي أنه لسان آخر للبطل (وهو سالم في الأحمر والأصفر). يقودنا هذا لاستنتاج آخر، أن بطل "الأحمر والأصفر" سالم لم يمت في النهاية الهلامية للرواية، بل أخذ دور السارد العليم ليسرد قصة حياته ولو بعد حين. وهذا يدفعنا للتأمل إن كانت رواية الأحمر والأصفر رواية سرد ذاتي!! 
****

هل يمكن أن يتحلى سالم بتلك العبقرية وهو في تلك السن؟

سؤال قد يطرحه كثيرون خاصة وأن السارد العليم قد بالغ في تبجيل تلك العبقرية. لكن من خلال ما تقدم نرى أن هناك مستويين لسالم. فهناك سالم المراهق الحاد الذكاء، وهناك سالم رمز الذي يرى ما لا يراه الآخرون. وأعتقدُ شخصياً أن المجتمع ينتج أفراداً يتحلون بتلك العبقرية (في كلا المستويين). ولربما كان مؤلف "الأحمر والأصفر" أحدهم. لعله يرى ما لا نرى. أو لعلنا نرى ما لا يراه.

الأربعاء، 3 فبراير 2010

سر السعادة

سرُ السعادةِ



ذو العلم يشقى في النعيم بعقله .. وأخو الجهالة في الشقاوةِ ينعمُ

قبل أيام كنتُ في حديث مع صديق أثناء عبورنا بقعة كثيرة الزرع. وكان الجو كفيلاً بأن ينضح الشعر في قلب شاعر، إلا أن كلينا ليس بشاعر. كانت السعادةُ مدارَ الحديث. اختلفنا فيمَ يحققُ السعادة.

اليومَ أقعُ على نص قديم جداً، نصٍ لفيلسوف أندلسي هو ابنُ باجه. يقول ابن باجه: "إن الإنسان يستطيع بلوغ السعادة القصوى من طريق العلم والتفكير، لا بإماتة الحواس وتجسيم الخيال كما يفعل المتصوفون".
.


الجمعة، 1 يناير 2010

فقدان الذاكرة والموت

فقدان الذاكرة والموت


فَقَدَ صديقي الذاكرة. كان يتشقلبُ تحت أضواء الألعاب النارية في احتفال دخول السنة الجديدة، فوقع على رأسه. لبرهة ظننا أنه أغمي عليه، حينما لم يستجب لوخزنا المتتالي له. ربما فقد الإحساس حينها، لكننا تأكدنا أنه فقد الذاكرة حينما لم يعرفنا، لم يُميز من كان حوله، ولم يميز ذاته، ولم يميز الزمن.

هي أول تجربة أتعامل من خلالها مع فاقد ذاكرة. وكان ذلك شيئاً مميزاً. اضطر هو أن يثقَ بالأغراب (من كانوا نحن). واضطررنا نحن أن نفكر ما العمل؟ ماذا نفعلُ به؟ كيف يستعيد ذاكرته؟، واضطررنا أن نتأمل طبيعة الأمر، أفقد مؤقت للذاكرة أم أبدي؟ وهل الأمر تعيس جداً كما بدا من الوهلة الأولى؟

اتخذنا القرار على عجالة بأن نأخذه للمنزل لينام. ربما احتاج للراحة كي يتعافى. في الطريق بدا شارد التركيز، وبعيداً جداً. كان ينظر للأضواء القادمة من البعيد. عيناه مضطربتان، لكنه صامت. فكرتُ للحظة: لو كنت مكانه لتسائلت عمن أكون، ومن هؤلاء الذين يركبون معي (أو أركب معهم)، وإلى أين ذاهبون. بيد أني استدركتُ نفسي لقد نسيَ ذاكرته، وربما نسىَ التساؤل!

ما يزال صاحبي مضطجعاً على سريره وأنا أكتبُ هذه الكلمات. تستبدُ بي بعض الأفكار، لتقاربني إلى عالمه. ما الفرقُ بين الموت وفقدان الذاكرة. كلاهما يأخذان الذات (الوعي) ويتركان جسداً. ما الفرقُ بين جسد الميتِ، وفاقد الذاكرة سوى أن الأول شيءُ ميت، والآخر شيء حي. كلاهما شيء، ولكنهما دون قيمة حقيقية في هذا الوجود. لكن إن فكرتُ هكذا، هناك أشياء حية كثيرة دونما وعي، ودونما قيمة حقيقية في الوجود. مجرد رتوش على السطح، لا تُزيدُ أو تُنقصُ في القيمة.

صاحبي ما يزال على السرير. إنه نائم. النوم أيضًا فقدان للذاكرة، أي فقدان للذات، أي أنه موت كذلك. لكن الإنسان يتذكر اللحظة التي فاجأهُ فيها النعاس، وربما يتذكر أنه قام أثناء النوم، أو يتذكر أحلامه وكوابيسه. تبقى ذاكرته حية حينما يفيق، مع ثقوب بسيطة فيها. لكن هل سيذكرُ صاحبي اللحظات التي عاشها وهو فاقد للذاكرة؟
لا أدري.
.