الخميس، 31 مارس 2011

نهاية قوس قزح: صحار ٢٩ مارس

نهاية قوس قزح: صحار ٢٩ مارس


أنا يقتلني نصفُ الدفءِ، ونصفُ الموقفِ أكثر
مظفر النواب

في خلال أسبوع مضى وقعت أحداث في اعتصام صحار. تردد أن وفداً من المعتصمين إلتقى وزير المكتب السلطاني. وشهدت بعض المؤسسات الحكومية الخدمية في صحار إغلاقاً تاماً بسبب ما تردد عن تهديدات من قبل المعتصمين لهم. أيضًا توقفت بعض المدارس الكبرى في صُحار لسببين: إضراب سائقي الحافلات، وتهديد آخر من بعض المعتصمين بوجوب إغلاق تلك المدارس. ومنذ فجر أمس -٢٩ مارس- قامت القوات العسكرية والأمنية بحملة مداهمات على المعتصمين في الدوار نتج عنها فض الاعتصام، وإلقاء القبض على عدد من المعتصمين. بموازاة ذلك تمت مداهمة بعض المنازل في ساعات متأخرة من الليل للقبض على أشخاص لهم صلة بالاعتصامات.

تعليقاً على مستجدات صُحار، نشرت جريدة عُمان في عدد اليوم بياناً من الادعاء العام يعلن فيه أنه أعطى أمراً للسلطات العسكرية والأمنية بإلقاء القبض على من قام بـ"التجمر بقصد الشغب والتخريب والإخلال بالنظام العام وقيامهم بأعمال الهدم والتخريب في المرافق والمنشآت العامة والخاصة، وكذلك إقدامهم على إقلاق الراحة العامة أو الطمأنينة وسد الطرق العامة بما يؤدي إلى منع عبورها أو عدم سهولة السير عليها، والاعتداء على رجال الأمن".

لو رجعنا لوقت بدء الاعتصامات، لرأينا دأب مسؤولي الحكومة والإعلام العماني العام والخاص على تأكيد شرعية الاعتصام السلمي والتعبير عن الآراء بحرية، معللين ذلك أن النظام الأساسي للدولة ضمَن ذلك للمواطنين. بناءً على ذلك الموقف استمرت الاعتصامات في صُحار، وصلالة، وصور، ومسقط. تحولت الاعتصامات إلى منابر عامة لمناقشة الشأن العام والتجارب الشخصية المرتبطة به. شهدت البلد أيضًا اعتصامات وإضرابات لفئات متعددة، ربما كان آخر ذلك اضراب سائقي الحافلات في صحار.

شهر من الزمن منذ بدء سلسلة الاعتصامات، بعضها ترك أثراً سلبياً على حياة الناس مثل اعتصام صحار الذي رافقه إغلاق الدوار العام أغلب ساعات اليوم. لهذا نادت بعض الآراء بفك الاعتصامات والعودة للعمل والحياة الطبيعية تفادياً للإخلال بمصالح الناس، مع إعطاء الدولة فرصة لتنفيذ الإصلاحات والمكاسب المتحققة والموعودة. لكن في مقابل ذلك التزم المعتصمون بعدم التزحزح عن موقفهم حتى تنفيذ جميع المطالب التي تقدموا بها.

شعَرَ المعتصمون أن الاعتصامات لحظة تاريخية وهي الوسيلة الوحيدة المتاحة لتحقيق كافة مطالبهم لسببين. الأول أنها أثبتت نجاعتها في الضغط على الحكومة لتوسيع خدماتها الاجتماعية للناس والوعد بإصلاحات سياسية. الثاني أن الحياة العامة بالسلطنة لم تقدم خبرات أو أمثلة سابقة ناجعة لإيصال أصوات الناس. لهذا كان القرار عدم فض الاعتصامات، مع تأكيد الدولة على شرعية الاعتصامات السلمية.

بيد أن الاعتقالات والمداهمات فجر ٢٩ مارس للقبض على المخربين ومثيري الشغب ومخلي النظام ومقلقي الطمأنينة.. ثير تساؤلات كثيرة حول طبيعة موقف الادعاء العام -والدولة من خلفه-.

هل أريد بتلك الأوامر مهددي الدوائر الحكومية؟ ولماذا لم يتحرك الادعاء العام مطلقاً أوامره للأجهزة الأمنية والعسكرية ساعة وقوع التهديدات ضد الدوائر الحكومية؟ لماذا انتظر الادعاء العام أياماً ليتخذ قراره؟ صيرورة الأحداث تجيب على التساؤل موضحة لنا مراد الادعاء العام: فض الاعتصام. ويتناقض هذا مع تصريحات وتأكيدات السابقة أن حق الاعتصام السلمي كفله النظام الأساسي للدولة. فكيف يقوم الادعاء العام بمخالفة النظام الأساسي للدولة؟

أيضًا هل كان كل من تم القبض أو التعميم عليه هو مخرب للمنشآت العامة أو الخاصة حقاً؟ أم أن هناك حساباتٌ أخرى؟ سلطان السعدي، علي المقبالي، عبدالغفار الشيزاوي، طالب المعمري، صالح العامري، أحمد الشيزاوي، حسن البشام .. هل اعتدى هؤلاء على منشئة عامة أو خاصة؟ أم أن الخطيئة هي المشاركة في تنظيم الاعتصام؟ هناك بون شاسع بين التحرك ضد المخربين وإلقاء القبض على رموز المعتصمين.

وأيضًا ما الداعي لاقتحام منازل المطلوبين عنوة آخر ساعات الليل؟ هذه الخطوة تنم على خطورة المطلوبين، فهم هم كذلك؟ ولم تلكأ الادعاء العام في القبض عليهم إن كانوا كذلك؟ ألا نعيش في بلد محافظ تتمتع فيه المنازل بحرمة كبيرة؟

لا يبدو لي أن خطاب الدولة متسق مع سلوك أجهزتها. ينبغي أن تغير الدولة خطابها أو سلوك أجهزتها. ليس القلق هنا على قيمة الصدق، إذ لا معنى للصدق في السياسة، لكنما القلق على مصداقية الدولة أمام الرأي العام العماني. الرأي العام الذي لايزال جزء مهم منه معتصماً في صور وصلالة منتظراً.

الخميس، 24 مارس 2011

انتهازية أم صيرورة طبيعية؟

انتهازية أم صيرورة طبيعية؟

ذكرتُ مسبقاً أن أحداث مدينة صحار كانت غير متوقعة، وتسلسل أحداثها لم يكن مدبراً، و نتائجها لم تكن قابلة للتنبأ ساعتئذ. وبما يوازي نسق سير الأحداث، لم يكن الشباب -عماد الحدث- مُدبرونَ أو منظمون للأحداث أو لأنفسهم. لكن كان هنالك شعور عام ألا تراجع حتى يتم تلبية مطالبهم حول الوظائف والحياة الكريمة. تجلت قلة التنظيم في توزع المعتصمين في الدوار، وحواليه مع عدم وجود جسم تنظيمي لهم في الأيام الأولى.

كان الاعتصام في أيامه الأولى خالياً من أي سلطة هرمية (تم الاستفتاء على حدة على كل مطلب سيُعرض على وزير الديوان في الليلة الثانية من الاعتصام مثلاً)، ولم يقبل ممثلي المجتمع كشيوخ القبائل على سبيل المثال. لم يكن هناك وجود منظم لمن يتعارف عليه "بالمطاوعة"، رغم وجود "المطاوعة" في الاعتصام باعتبارهم جزء عضوي من المجتمع. لم يكن هناك خطاب موجه من الأعلى للأسفل معتمداً على أية سُلط سياسية أو اجتماعية أو دينية. وكان هذا وضع متميز جداً في مجتمع هو بخلاف ذلك تماماً.

هل حدثت نقاط تماس مبكرة تختبر الوضع المذكور سابقاً؟

نعم. أحد أيام الاعتصام الأولى تقدم وجه عماني فني معروف في السلطنة ليلقي خطاباً من على المنصة المشيدة حديثاً. لكن أحدث أحدهم خطأ شنيعاً. لقد تم تقديم الرجل باعتباره "أستاذاً" مع التذكير "بمن هو". ولأن ذلك لم يكن مناسباً للجو العام السائد هناك فقد تم "إقصاء" الرجل من على المنصة. حتى التجمهر الصغير -الذي تكون لاحقاً- حول الفنان تم فضه تحت شعارات الخوف من مؤامرة!

هل استمر ذلك الوضع؟

لا، لأن ذلك الوضع كان مؤقتاً ومضاد لطبيعة أي اجتماع بشري، فقد نظم المعتصمون أنفسهم وشكلوا لجاناً لإدارة الميدان. تلك اللجان استضافت لاحقاً خطباءً يمثلون فئات المجتمع المختلفة مثل شيوخ القبائل، و"المطاوعة" رغم تغير شكل خطابهم وليس المضمون.

وفي مشهد آخر يستحق الملاحظة، تقدم بالدعم للمعتصمين بالدوار بعض الطامحين لعضوية مجلس الشورى في صحار. كانت تلك التحركات تضاهي التحركات التي تشهدها المواسم الانتخابية حينما يقصد المُترشحون "مراكز القوى" في كل ولاية. ولأن المعتصمين كانوا قوة كبيرة قد ظهرت، فقد كانوا المحل الأنسب لتحقيق "المطامح الشوروية" لحامليها. كان الأمل لدى هؤلاء أن يقدموا الدعم المعنوي أو المادي أو كليهما نظيراً للترويج الذي سيلقونه لدى أهل الاعتصام وامتداداتهم الانتخابية لاحقاً. لا أعلم ما حدث لاحقاً بين هؤلاء والمعتصمين.

تساؤلات كثيرة يمكن أن توجه للتصرفات الأخيرة من هؤلاء الأشخاص: هل هذه الأفعال انتهازية محضة وسط حراك اجتماعي وطني حقيقي؟ أم أن هذه هي الطبيعة الأزلية للعمل السياسي دون استثناء حتى أحلك اللحظات التي تحدد مصير البلد؟ هل تكرر مثل هذا المشهد في مناطق الاعتصامات الأخرى؟ هل هذه هي الطريق الجديد للفوز بعضوية المجلس عوضاً عن استخدام رشوة الخمس ريالات؟


احتجاجات | اصلاحات

احتجاجات | إصلاحات
دعوا ألف زهرة تتفتح
ماوتسي تونج


بمساء الأحد ٢٧ فبراير كنتُ في منطقة دوار صحار. كانت الحرائق ماتزال مشتعلة. مئات الشباب منتشرين بالدوار، وأعداد كبيرة من "بقية الناس" تطوف في المكان. في ذلك الوقت الحرج استلمتُ رسالة نصية تفيد أن السلطان قابوس أمر بتوفير ٥٠ ألف وظيفة للعُمانيين، بالإضافة للإعانة ضد البطالة وهي ١٥٠ ريال عُماني. 

التلبية السريعة للمطالب الوظيفية والاجتماعية كانت منطقية باعتبارها العنوان الأبرز للاحتجاجات، لكن لم تكن تلك الاحتجاجات الصاخبة هي الاحتجاجات الوحيدة في عُمان كما أشار لذلك عبدالله الحراصي. كان لابد من إصلاحات سياسية كبرى تعيد تشكيل آليات عمل الحكومة والمجتمع المدني. بادر السلطان قابوس بجزء كبير منها كمنح الإدعاء العام الاستقلالية المالية والإدارية، وتوسيع صلاحيات جهاز الرقابة للدولة (مع تغيير رئيسه). أيضًا تم إعادة تشكيل الحكومة التي لم تعد تضم أسماء متعددة كانت هدفاً لاحتجاجات العمانيين فيما مضى.

بيد أن أبرز الإصلاحات هي إصلاح منظومة مجلس الشورى. كانت الخطوة الأولى التي قام بها السلطان هي توزير بعض الأعضاء الحاليين أو السابقين في المجلس. هذه الخطوة كانت ذات دلالات مهمة بنظري. فمن جهة حاز هؤلاء الأعضاء على الدعم الشعبي في دوائرهم الانتخابية (الولايات)، ومن جهة أخرى تحاكي هذه الخطوة طرق اختيار الوزراء في الأنظمة البرلمانية، باعتبارهم يمثلون ما يتطلع إليه المجتمع. الخطوة الثانية -الأكثر أهمية- هي تعديل النظام الأساسي للدولة (الدستور) بما يعزز صلاحيات مجلس الشورى. لايمكن التنبأ بالصلاحيات التي ستقترحها اللجنة المعينة خلال ثلاثين يوماً من إنشائها، لكن الأمل المعقود أن توسع صلاحيات مجلس الشورى لتكون رقابية، وتشريعية. 

أما اجتماعياً، فكانت هُناك علاوة لغلاء المعيشة (ينبغي أن تربطُ بتغير نسبة التضخم سنوياً)، وإصلاح نظام معاشات التقاعد للقطاع العام والخاص. وإصلاح نظام التأمينات الاجتماعية. بينما تعالت أصوات عديدة مطالبة بإصلاح نظام التعليم العام، ونظام التعليم الجامعي (زيادة عدد الجامعات أو تأميم الجامعات الأهلية والخاصة)، وإصلاح قطاع الإعلام العماني (بوادر الإصلاح بدأت منذ مرسوم إنشاء الهيئة لكن يبدو أن القطار تعثر).
.

الكثير من المطالب. وعربة الإصلاحات السياسية والاجتماعية قد بدأت فعلاً. لكن الإصلاحات السياسية تنبيء بتحديات قادمة: تحديات أمام المجتمع "بانتخاب" الأفضل لتمثيله، وتحديات أمام الحكومة التي ينبغي أن تؤثر حزم الإصلاحات  (السابقة والقادمة) في "عملها لا في أفعالها". أما الإصلاحات الاجتماعية فإنها تثير مخاوفاً من تشكيلها ضغط كبير على ميزانية السلطنة المحدودة بموارد النفط المُكلِف والضئيل. الإصلاحات الاجتماعية لن تغير الكثير في الوضع المعيشي للناس إن لم يصحبها إصلاح عميق في سياسات سوق العمل وفي الاقتصاد. سياساتٌ أكبر من وزارة العمل ووزارة المالية لتقوم بها بمفردها. سياسات لابد أن تكون استراتيجية دولة في الخروج من مأزق يلوح في الأفق.

الثلاثاء، 22 مارس 2011

من أدار الأزمة؟ ومن يتحمل المسؤولية؟

من أدار الأزمة؟ ومن يتحمل المسؤولية؟

هذا دم أم ليس دم؟!
مظفر النواب

كانت الأمور غائمة في صحار. لم تُعرف هوية الذي يدير الأزمة. لم يلح في أفق صحار وجود سلطة تعي أبعاد ما يجري، وتستطيع وضع حلول تحتوي الوضع الذي ازداد تأزمه.

في اليوم الأول، ٢٦ فبراير، أبى مدير عام القوى العاملة إدارة الوضع أمام أبواب مؤسسته. وتم رفض تدخل الوالي، لأنه لا يستطيع تقديم الحلول: الوظائف! وتم التصادم مع مدير إدارة شرطة الباطنة. 

في اليوم الثاني، ٢٧ فبراير، استخدم الحل الأمني على غرار هجوم قوات الأمن البحرينية على المعتصمين بدوار اللؤلؤة الساعة الثانية فجراً. ردة الفعل من قبل المعتصمين كانت مدوية. في مساء اليوم: سقوط قتيل وعدة جرحى. الشارع الرابط بين دواريْ الكرة الأرضية والوقيبة كان أشبه بمخلفات ساحة قتال. أعلن السلطان عن الخمسين ألف وظيفة.

في اليوم الثالث، ٢٨ فبراير، أُحرق مركز اللولو التجاري. بدأ تلفزيون سلطنة عمان بتغطية الأحداث، واصفاً المعتصمين "بالمجموعة التخريبية". بدأت رسائل نصية "مجهولة المصدر" تصل على الهواتف المحمولة بعمان. جاء بأحدها:
لا يا شباب ندائي لكم جميعاً لا تنخدعوا مثلما انخدعت وانخدع غيري بأن المظاهرة في صحار ليست بريئة فهي مدفوعة من الخارج وإلا لما يصرون على تقطيع أوصال اقتصادنا باستهداف الميناء والمنطقة الصناعية وقطع الطرق. الحذر الحذر. نعم نختلف في بعض الأمور مع الحكومة ولكن لا يمكن المساس بالمقومات وإلا سندفع الثمن غاليا. نعم هذه المظاهرة مدفوعة من الإماراتيين، أقول بعض الجهات الرسمية فيها وليس الشعب. شعب الإمارات يتألم ما يحصل في عمان من تخريب.
في اليوم الرابع، ١ مارس، نظمت مسيرة الولاء والعرفان للسلطان بمسقط، مع تغطية مميزة جداً لتلفزيون عمان. بينما احتدت الإشاعات وأعمال التخريب في صحار الذي كان وضع أهلها كما جاء في الآية الكريمة: إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر. واستمرت الرسائل المجهولة التي كان أحدها:
الأشخاص الذين يقومون بأعمال التخريب ليسوا من صحار وإنما يقوموا بتشويه صحار لأنها سوف تصبح من أهم المدن العربية من الناحية التجارية. والأشخاص المتظاهرين مدفوع لهم مبالغ لزعزعة الأمن. فيجب علينا الوقوف صفا واحدا من خلال إرسال رسائل التوعية لجميع الشباب وخاصة أهالي الباطنة الشرفاء. ارسل الرسالة لأصدقائك المخلصين. 
 في اليوم الخامس، ٢ مارس، بوادر تغير في تغطية الإعلام العماني للاعتصامات التي انتشرت في عُمان. حسين العبري يتصل ببرنامج هنا عمان الذي يقدمه خالد الزدجالي:

كان هناك تخبط في أدارة الأزمة. اليومين الأوليين أسفرا عن قتيل وجرحى، واستدعت انتباه وكالات ووسائل الإعلام العالمية. تم الاستقرار لاحقاً على فكرة خطيرة وخبيثة بتحميل الإمارات مسؤولية الاعتصامات والتخريب. استغلت لهذا شبكة الاتصالات (لم يفتح تحقيق في هذا حتى الآن!) وتم إبطاء الإنترنت (في صحار على الأقل)، مع تغطية مبتذلة (أخف ما يمكن استخدامه) من التلفزيون العماني. كادت صحار أن تشهد فتنة بين أهلها والمعتصمين. لو حدثت الفتنة لوقعت دماء جديدة إضافة لدماء قتيل وجرحى. من أدار الأزمة؟ ومن يتحمل المسؤولية؟

الأحد، 20 مارس 2011

حول أحداث صحار


تفجرت احتجاجات مدينة صحار بُعمان صبيحة ٢٦ فبراير. ولعله يمكن القول أن المتظاهرين والسلطات الحكومية لم يتوقعوا مستقبل سير الأحداث. توقع سير أي حدث يقوم على تحديد صانعيه والمؤثرين فيه. بينما في حالة صحار، كان ظاهراً للعيان أن المتظاهرين -المعتصمين لاحقاً- لم يكونوا تنظيماً واحدًا، وبالمثل كانت السلطات الحكومية التي تدخلت في مجريات الأمور عبر مؤسسات مختلفة حمل كل منها سياسة معينة للتعامل مع الأحداث على الأرض.

تلك الأحداث التي بدأت احتجاجاً على خدمات وزارة القوى العاملة المقدمة للعاطلين عن العمل، والتي توسعت لاحقا إلى ما عرفه الجميع. كان يمكن لمراقب الوضع إدراك الدلالات الكبيرة للأحداث. لجأ الكثير لتصويب فعل المحتجين على أفعال الحكومة، أو العكس. بينما لم يكن قضية ما حدث هو  معرفة المصيب أو المخطيء، أو استيضاح أين يقف الحق. فهذه الأحكام هي بسيطة وسهلة، فهي تلقي اللوم على طرف دون طرف، في حين أن الأمور أكثر تعقيداً من ذلك.

اتضح منذ اليوم الأول للاعتصامات أنها اعتصامات شبابية غير مؤطرة سياسياً. اعتصامات ضد البطالة، ولتحسين جودة حياة الأفراد، ولتحسين جودة الخدمات الحكومية، وللفت انتباه السلطان لسوء الأوضاع على الأرض. كان طليعة الاعتصام شباب أكملوا تعليمهم الثانوي، وبعضهم أنهى تعليماً جامعياً دون التحاقه بفرص عمل تمنح صاحبها حياة كريمة.

لم تكتفي تلك الشريحة المعتصمة بتقديم مطالبها للجهات المسؤولة كما كان يحدث في الماضي. فقد تغير الوضع على الأرض -لأسباب متعددة-. توقف الشباب عن كونهم فقط أعداداً في سجلات الحكومة. إنهم الآن "قوة فاعلة" على الأرض، قوة تفعل ما يحقق لها مصالحها، وتفاوض مسؤولي الحكومة على ذلك. قوة جديدة دخلت على مسرح الأحداث لتحدث خللاً في التوازنات القائمة. لكن هل انتبهت "الحكومة" بسرعة للتحول الكبير في القوى؟

الإجابة هي لا بكل أسف. ممثلو الحكومة في صُحار لم يستوعبوا التغير السريع الذي حصل يوم السبت ٢٦ فبراير. كان الاعتقاد السائد أن السلطة الاجتماعية التقليدية لازالت فاعلة. لهذا حاول الوالي والشيوخ والرشداء والأعيان دفع المعتصمين من منطقة الدوار. وتلك المحاولة تستحق تأملاً: كهولٌ بعمائم وعصي وخناجر ينطلقون من تقدير لموقفهم أنه أعلى من المعتصمين الذين كانوا شباباً، والأغلب كان يرتدي ملابس النوم وملتفاً بعمائم لاتستخدم في المناسبات الرسمية. 

بعد فشل مساعي الوالي والشيوخ والرشداء والأعيان، كان لابد أن يتم استخدام القوة المباشرة لفض الاعتصام. تم الهجوم على المعتصمين النائمين فجراً، واقتيد العشرات منهم إلى سجن سمائل المركزي كما تردد. ومع طلوع شمس ذلك اليوم كان عمال البلدية يقومون بتنظيف الدوار من مخلفات الاعتصام، وصبغ الجدران الاسمنتية للدوار لإزالة شعارات المعتصمين. من قال أن شيئاً حدث؟ لم يحدث شيئاً في صحار! 

كان لابد من الانتظار حتى الحادية عشر صباحاً حتى يتجمع المعتصمون مرة أخرى، لكن هذه المرة مع بقية امتداداتهم الاجتماعية. كان الصراع واضحاً جداً بين هذه القوة الناشئة، وبين قوة ثقافة الوضع الراهن. ما الذي حصل؟ هذا ما حصل:

كانت تلك المواجهات تاريخية. الأولى من نوعها في عُمان الحديثة، فمهدت لمرحلة سياسية جديدة بعد توجه السلطان قابوس لإصلاح دستوري، وتحسين مخصصات الضمان الاجتماعي للشرائح الفقيرة والعاطلة عن العمل. تلك التحسينات جاءت مختلفة عن الزيادات الهامشية التي أقرت قبل سنوات قليلة. تم أيضًا إقرار تشكيلة حكومية جديدة شهدت التخلص من مراكز القوى السابقة، التي كانت محل انتقاد واسع من العمانيين.

بيد أن الأثر الأكبر لأحداث صحار -في تقديري- هو التغيير الثقافي الذي نتج عنه. تغير في التصور العام للعلاقة بين المسؤول والمواطن، بين الدولة والمواطن. انتشرت رقعة الاعتصامات في مختلف ولايات السلطنة (البريمي، صور، صلالة، لوى ..إلخ)، ومختلف مؤسساتها (الجامعة ومؤسسات التعليم العالي، البنوك، الإعلام ..إلخ). اعترفت الدولة بشرعية الاعتصامات وشرعية التعبير عن الرأي -معللة بأن دستور الدولة يكفله- تحت حكم الأمر الواقع، حينما فشلت في فض اعتصام صحار بالقوة في اليوم الأول بعد خلو الدولة الحديثة طيلة الأربعين سنة من اعتصامات أو احتجاجات موجهة ضد السياسات الحكومية.

ومن مفارقات الأمور -التي كنت شاهداً عليها- أن التغيير الثقافي يتسلل ببطء إلى بعض المواقع ويكون واضحاً في مواقع أخرى. أديتُ صلاة الجمعة، الجمعة الأولى بعد انطلاق الاحتجاجات، في أحد المساجد بِصُحار. لم تتناول الخطبة أحداث الولاية، بل فضل الخطيب استخدام كُتيب خطب الجمعة. لكن الخطيب دعا في نهاية الخطبة للمطالبين بالحقوق، ودعا على الظلمة ومنتهكي الدماء. في ذات الوقت كانت هناك خطبة جمعة مختلفة تماماً في دوار صحار. كانت -ربما- أول خطبة تتناول الشأن العام لم تراقب مسبقاً. كانت على قدر الحدث، وكان الحضور على قدر الحدث أيضًا.


لقد بدأت عجلة التغيير في عمان، وقد تغيرت كذلك تصورات كثيرة في الثقافة العامة. لكن إلى أين يقودنا التغيير؟ وما هو المستقبل؟ لا توجد ضمانة مسبقة لمستقبل أفضل. أقتبس هنا لحسين العبري: "أقول أن كل شيء قادم هو بالضرورة الفلسفية والنفسية سيء. بيد أن القادم السيئ الذي أصنعه خير من القادم السيئ الذي يُصنَع لي".