الأربعاء، 25 يوليو 2012

حتى لا ترجع سورتنا أليف لحسين العبري، مجلة الفلق


حتى لا ترجع سورتنا أليف[i] لحسين العبري، مجلة الفلق



 وإن كان أعجبنا شيء منكم فقد ساءنا شيء آخر
حسين العبري

قُبض على ثلاثة من “الناشطين” متوجهين إلى مكان إضراب العمال في الشركات العاملة في قطاع النفط. أُخرِج اثنان منهم تباعا وبقي واحد محتجزا حتى الآن، وحسب ما تنوقل من أخبار على صفحات الإعلام الالكتروني فإن المحتجز المتبقي من تلك “الفتكة” وبعد 50 يوما من الحجز لم يُقدَّم بعدُ للمحاكمة.
على هذا الوضع قام ناشطون آخرون بالتوجه إلى مبنى الادعاء العام في محاولة للاعتراض، ورفعوا لوحات منددة بـ “الوضع القانوني” غير القانوني للاعتقال، وساندهم آخرون بكتابات على النت. ودخلت البلاد أزمة ما سُمِّيَ بـ “الكتابات المسيئة”، وهي كتابات كتبها أصحابها في النت وفي اللوحات أمام مبنى الادعاء العام، واعتقل على إثرها عدد من الكتاب شهدنا أخيرا محاكمة بعضهم.
عل إثر الاعتقالات الجديدة قام عدد آخر من الناشطين والحقوقين والكتّاب بوقفة احتجاجية أمام قيادة الشرطة في القرم منددين بحركة الاعتقالات، فاعتقلوا هم بدورهم، وشهدنا مع مرور الأيام خروج بعضهم تباعا من الاحتجاز ومحاكمة البعض الآخر.
استدعي أيضا عدد آخر من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي واحتجزوا وشهدنا محاكمتهم بجرائم مختلفة؛ منها الإساءة وجرائم تقنيات المعلومات.
قامت جريدة عمان، وفي سابقة من نوعها، بنشر صور بعض الذين حوكموا، ولم تكن صورهم وهم في قاعة المحكمة بل تلك الملتقطة لهم في لباس الاحتجاز وتحتها تواريخ ميلادهم ومحال إقامتهم وأماكن دراستهم أو عملهم. وبسبب الربكة التي حصلت جراء هذا “التشهير” استاء البعض، وكتبوا معترضين أو ناقمين أو اتصلوا بالمسؤولين في وزارة الإعلام، ثم أخرج بعض الكتاب والحقوقين والناشطين بيانا شاجبا، لتخرج الجريدة بدورها بـ”شبه اعتذار” غريب. ثم في حركة أشد من سابقتها، في الاسبوع اللاحق، نُشِرت صور المحكوم عليهم هذه المرة في نشرة أخبار العاشرة قبل أن تنشرها الجريدة صباح اليوم التالي.
وأمام ردور الفعل المختلفة التي سبقت ولحقت نشر صور المحكومين، استدعي أيضا عدد آخر من قبل الجهات الأمنية ونوقشوا “نقاشات ودية” حول تغريداتهم في مواقع التواصل الاجتماعي وحول مقالاتهم في الاعلام الالكتروني البديل، وما عساهم يقصدون، مع بعض التأنيب هنا وهناك، وإرسال رسائل ظاهرة وباطنة إليهم وإلى من حولهم.
كل هذه الأحداث لم تكن طبعا وليدة نفسها، بل كانت هي الأخرى رجعا لما حصل من احتجاجات واعتصامات في العام المنصرم، في الأحداث التي يطيب للبعض تسميتها بـ “الربيع العماني” ضمن ما سُمِّي إعلاميا بـ”الربيع العربي”.
على خلفية هذه الأحداث جميعها سأوجه لنفسي بعض التساؤلات التي أجدها مشروعة، ويتداولها كثير من الناس، وأحاول أن أجيب عليها بتلقائية وبلا مواربة، وأيضا بمباشرة لكي لا نتوه سوية فيما أريد أن أقول أو أفسَّر خطأ من قبل أي جهة.
أحد أهم نتائج حراك السنة المنصرمة سقوط حاجز الخوف من قلوب الناس فيما يخص علاقتهم بالحكومة والنظام. والحق أن هذا السقوط لم يأت مرة واحدة بل سبقته محاولات كثيرة من كتابات متفرقة ودعوات منتظمة ومسيرات واحتجاجات، ولكن الوضع كان ملائما جدا في الفترة المنصرمة. وما نشهده الآن من تحرك أمني ما هو في وجهة نظري إلا محاولة لفرض الهيمنة وإعادة ذلك الخوف إلى قلوب الناس. فكثير ممن كانوا يختفون وراء أسماء مستعارة في مواقع الانترنت، أصبحوا يكتبون بأسمائهم الحقيقية، بل وإن الذين يكتبون مع الحكومة والنظام أصبحوا أحيانا يكتبون متدارين خلف أسماء وهمية. لقد انقلب  المشهد نوعا ما.
وأرى أن من حقنا جميعا أن نطلب من الناس أيا كانوا أن يكتبوا بأسمائهم الحقيقية من الآن وصاعدا في النت لكي يجنبونا مغبة التوهم أنهم يخفون أجندة أيا كان نوعها. ولكي يبدو المشهد معبرا عن الواقع، فنحن جميعا نعرف أن العديد من نشطاء النت لديهم أكثر من حساب في ذات المواقع لأسباب مختلفة. فحتى لا يتهم بعضنا بعضا أرى أن نسقط الأقنعة الكتابية، ويكتب كل باسمه الحقيقي. فالمستفيد من إخفاء الأسماء الآن هي  الجهات الأمنية، والتي هي ليست بحال من الأحوال ندا للناس بل مع الناس ولكن بطرق أخرى؛ فهم بحكم الوظيفة مع الناس، ولكنّ طرقهم أحيانا تكون غامضة بعض الشيء، والمستفيد أيضا اولئك الذين يحبون أن يصطادوا في الماء العكر. وليعلم الجميع أنه حسبما شاهدنا في المحاكمات الحالية أن الجهات الأمنية والقضائية والقانونية كلها قادرة، فيما يبدو أن تعرف هوية الأشخاص الذين يدخلون إلى العالم الافتراضي في النت أو في وسائل الاتصالات الأخرى. وليعلم الجميع أن الكتابة وإبداء الآراء هي حق من حقوق الجميع، حق كفله القانون والنظام الأساسي للدولة، بل إنها مع بعض الذين لديهم وجهات نظر وآراء جيدة تصبح فرضا وطنيا واجبا. ولذلك أدعو من هذه الصفحة، وأرجو ألا يُعَدَّ هذا من قبيل التحريض إلا على فعل الخير، أن يكتب كل من لديه وجهة نظر أو رأي أو فكرة او انتقاد، أن يكتبه ولكن طبعا أن يكون بطريقة عملية علمية محترمة.
إن محاولة الجهات الأمنية أن تضع كل البيض في سلة واحدة، صالحه وفاسده، هو أمر واضح للعيان، وينبغي أن تحترم هذه الجهات عقول الناس كما تحترم رغباتهم في الأمن والأمان، فكما حصل في السنة المنصرمة حين قيل أن المحتجين والمعارضين والمعتصمين يريدون التخريب وقطع الطرق، أو لهم أجندات خارجية أو داخلية، ووضعوا جميعا في سلة المطالبين بحقوق غير مشروعة، فكذلك كان التعامل مع قضية “الكتابات المسيئة”. ففي حين نجد أن بعض المحتجزين والمسجونين والمحكوم عليهم قام بالإساءة المباشرة التي تدخل في نطاق قلة الأدب والسفاهة وأقل درجات الاحترام، نجد أن بعضهم كان يُعبّر عن شأن وطني ولكن بصيغة مجحفة وغير متزنة، والبعض الثالث لم يُعبِّر إلا بطريقة حسنة. لا أظن أن أحدا يحب أن يساء لأي أحد وتعاب ذاته الشخصية والذي يفعل ذلك فلا بد أن يعاقب. لا يجب أن يحصل هذا فقط لاننا في مجتمع تحكمه القيم الأخلاقية الجيدة (إن وافقنا على هذا) بل لأن القانون يجب أن يحمي الناس أيضا من مثل هذه الإساءات. ولذا لا أرى أن المشكلة تقع في هل يجب معاقبة المسيء على إساءته كما وضعتها الجهات الأمنية، بل في هل هي إساءة أم لا. فإن كانت إساءة وافق جميع الناس على إنزال العقاب، وإن لم تكن كذلك أو كانت مبهمة فأظن أنه من قبيل الإجحاف إنزال العقاب بالظِنَّة.
في المقابل يجب أن ننتبه لنقطة في غاية الأهمية، وهي أن المُشاهد للساحة العمانية الآن انشغل بالحديث عن هل ما فعله المحتجزون إساءة، وهل يجب أن يعاقبوا، وإن حكم عليهم القضاء هل من حق الجرائد والتلفزيون ووسائل الإعلام الأخرى أن تنشر صورهم وتُشهِّر بهم. وهذا ما يحيل الناس إلى الظن أن الكتابة المعارضة أو المنتقدة للسلطة والنظام هي إساءات كتابية، وأن الكتاب والمثقفين هم أولئك الفئة المتذمرة التي لا هَمّ لها إلا الإساءة وإرباك الناس والمس بأمنهم وأمانهم. والحق أن الجهات الأمنية قامت من قبلُ بمثل هذا العمل فأظهرت الشيوعيين والقوميين على أنهم كفرة، وأظهرت التنظيمات التي تريد قلب نظام الحكم على أنها ذات أجندات خارجية ولها معدات عسكرية، واظهرت المعتصمين والمحتجين على أنهم مخربين وقطاع طرق، ومهما يكن من صدق وكذب هذه الادعاءات، ومدى مطابقتها لجميع من نسبت إليهم من مشاركين في تلك الاحداث، إلا أنها عوملت بتلك الطريقة من غير أن يُبيّن للناس التفاصيل الأخرى التي كانت ستجعل الناس تحكم بما هو أقرب إلى الحقيقة. والحق ان العديد من العوامل كانت تجعل من التعمية والتمويه مقدورا عليهما في الماضي، ليس بأقلها التحكم الصارم في وسائل الإعلام.
معالجة الحكومة للأزمة في السنة المنصرمة تفاوتت بين ما هو جيد أريد به حقيقةً التغيير والإصلاح وبين ما هو شكلي لتمرير الأزمة. والمحلل لا يستطيع إلا أن يرى الصورة الكلية في العالم العربي حينها حين الحكم على أداء الحكومة. والمحلل يجب أن يرى أيضا الصورة الحالية للوضع العربي ليعرف كيف يحكم على اداء الحكومة حاليا. مع هذا فإنه من المنصف أن تُناقَش الحكومة أفرادا وجماعات، وكتابةً وشفاهيةً، عن مدى القيمة الإصلاحية والتقدمية التي حصلت جراء التغييرات التي شهدتها البلاد منذ تلك الأحداث وحتى الآن.
التضحية مثلا بالوزراء السابقين وتغيير معظمهم تباعا أعطى دلالات متضاربة وتصورات مختلفة. فالذين أخرجوا من الدائرة الوزارية جيئ بغيرهم بطريقة غريبة. مما يجعلنا نفهم أن قضية اختيار المسؤولين لا يبدو أنها قضية تنبني على أسس قوية. فأنا أرى مثلا، وهي مجرد وجهة نظر لا غير، أن بعض الوزارء السابقين كانوا أكفاء أكثر من لاحقيهم. وداخليا كنت أختلف مع بعض توجهاتهم وأساليبهم لكنني كنت أشعر في الأعم الأغلب أنهم ربما يكونون ملمين بجوانب أخرى من الصورة لا يراها الفرد العادي. وأيا كان الأمر فإن المعالجة كانت في رأيي لحل الأزمة حينها. والدليل ان الأشخاص استبدلوا بأشخاص آخرين، وكان هذا في بعض المواقف كافيا لإسكات غضب الناس، ولكننا رجعنا لنفس المشكلة، وهي كيف يتم الاختيار ومن يقوم بتقييم الأداء. وهذه بحق مشكلة عويصة. والأكثر ربكة هو ما هي صلاحيات الوزير أصلا وما مدى قدرته على الحركة.
ولعله يطيب لي هنا تحديدا ان أبدي تعاطفي مع جميع الوزراء والمسؤولين الحاليين، ولأدافع عنهم قليلا في ظل كل هذا الزخم المضاد الذين يكال عليهم من قبل كتاب النت والناس في مجالسهم. فبداية، من غير الجيد لهم هم أولا أن يكون اختيار الوزير اختيارا سياسيا أمنيا، بعيدا عن التخصصية والكفاءة. فالرياضي يُجعل اقتصاديا والزراعي يجعل رياضيا والكاتب يجعل إعلاميا والفنان يجعل تنفيذيا، والأهم من هذا كله أن الموظفين الذين يديرون المكان لسنين وقد تشربوه جيئة وذهابا ودراية يطاح بهم من أجل القادمين الجدد. الوزير والمسؤول عموما في موقف لا يحسد عليه حاليا، فهو مطالب من كل الجهات بعمل شيء وفي نفس الوقت مجبور أن ينفذ “أوامر عليا”، وبالتالي هو واقع بين فوهتي مدفعين من جهتين متواجهتين. وهو كبش الفداء الممكن بكل سهولة التفريط به بجرة قلم. وحتى حين الحديث عن المزايا الاقتصادية التي ينعمون بها والتي يُهوّلها الناس دائما فإني أجدها غير كافية، وفي رأيي جيدٌ أن يجتمعوا ويطالبوا بزيادة روابتهم بما يعادل عملهم كرؤساء تنفيذيين لمؤسساتهم كما هو الشأن في مؤسسات القطاع الخاص. أما عن مكافآتهم الأخرى التي يُعطون فهي، في رأيي المتواضع، ليست من العدل في شيء، فإن كانت مكافآت لهم فإن من يقوم بإعطائهم تلك المكافآت الأولى به أن يعطيهم إياها ضمن رواتبهم التي يشتغلون عليها في يومهم وليلهم. أما كانت ترضيات وتسويات يقوم بها مجلس الوزراء الموقر أو وزارة الديوان فهي ليست من حقهم بل وينطبق عليها ما ينطبق من نظرة الناس، ونظرتي شخصيا، في انعدام العدل المالي الذي أسسته وزارة الديوان. إن أبسط حقوق الموظف غير متوفرة للوزراء؛ فهم لا يملكون توصيفا دقيقا وكاملا لوظيفتهم (job description) وهم لا يمكلون حق رفض المنصب، ولا يملكون حق الاستقالة.
لنحلل مثلا مسألة إظهار صور المحكوم عليهم في جريدة عمان والتفلزيون لنرى كيف أن قدرة رئيس المؤسسة تصبح قابلة للشك. فقد نشرت جريدة عمان صور المحكوم عليهم بأسمائهم وتواريخ ميلادهم وأماكن عملهم وإقامتهم، وأمام غضب الناس وإصدار بعض الكتّاب بيانا منددا قامت الجريدة بـ”شبه اعتذار”، ثم جاءت حركة نشر صور المحكوم عليهم في الأسبوع الذي تلاه في نشرة العاشرة ثم في جريدة الصباح التالي. والسؤال الذي أراه مهما هنا هو لماذا قامت الجريدة بالاعتذار؟ فإن كان توجهها لا يمنع من نشر الصور، وهذا ما حدا بها للنشر بداية، فلماذا كان الاعتذار؟
ما أتصوره أن ما حصل كان كالتالي: فقد وصل خبر الحكم والصور لدى الجريدة، ولأن بها شانا مهما أعطي للوزير للتصريح بنشره أو تركه، رأى الوزير أن المقصود هو أن ينشر الخبر لا أن يُفعِّل هو قدرته على عدم نشره. فقام بالتوقيع ونشرَه. ثم جاءت ردة فعل الناس والكتّاب مشككة في القيم الصحفية متعللة بالبناء الأخلاقي للمجتمع الذي ما فتئت المؤسسات الحكومية تلمع من أركانه. ووُجِّهت الانتقادات لشخص الوزير ولعمل مؤسسته، فما كان منه أو ممن حوله أن ارتأوا أن ينشروا الاعتذار، وخصوصا أنه في الأشهر القليلة المنصرمة كانت تتشكل صورة عامة لدى المراقب أن جريدة عمان هي الجريدة الأفضل من حيث جرأتها في نقاش المسائل الحساسة، كما حصل مثلا في مسألة رمال بوشر، (الصورة العامة التي تجعل من جريدة الوطن لدى البعض مجرد قائمة إعلانات لا تحترم القارئ في أبسط حقوق المواطنة في أن يعرف المراسيم السلطانية كاملة في الصفحة الأولى، ومن جريدة الزمن مناوئةً ومعارضة إلى درجة الشخصانية أحيانا، ومن جريدة الشبيبة لاعباً بين بين). وطبعا ما جعل أخذ القرار بالاعتذار يبدو معقولا أن الجهات الأمنية لم تحرك ساكنا حينها، أي أنها لم تؤيده ولم تستنكره (هذا سيناريو تصوريٌّ طبعا). وإذن وجد الوزير نفسه في موقف لا يحسد عليه؛ فقد أخذ قرارا أغضب البعض من جانب، والذين يجب أن يؤيدوه لم يظهروا حينها من جانب آخر، وهذا كله دفع الجريدة للاعتذار أو لشبه الاعتذار. أما بعد نشر الاعتذار فقد جاء رد الجهات الأمنية واضحا ليدفع بالوزير في خانة صعبة إذ جاء النشر هذه المرة من جهة هيئة التلفزيون والإذاعة في نشرة أخبار العاشرة، بل وتضمّن هذه المرة نشر صورة فتاة محكوم عليها، ثم جاء نشر الصور في الجريدة في اليوم اللاحق. هكذا جاءت الرسالة واضحة هذه المرة أن الجهات الأمنية هي من وراء النشر، وأن الآخرين الذين ربما تسول لهم أنفسهم بالكتابة هم من وراء القصد.
في رأيي يجب ألا نغفل هنا عن أمر ما مهم، وهو قانونية النشر، ولنجعل أمر الاجتماعيات بعيدا . فنحن جميعا يجب أن نحترم القانون في النهاية والقانون هو ما يجب أن نسعى إليه في ظل اختلاف الأراء. ولا أجدني إلا متعاطفا مع الجميع في هذه المسألة، وأرى بالتالي أن يُعرّض الأمر للقضاء، وأن يُوجِّه الذين يظنون أنه تم التشهير بصورهم في الجريدة والتلفزيون دعاويهم للمحاكم لكي يقول القضاء، الذي ينبغي أن يكون عادلا لا مسيسا ولا أمنيا، كلمته الفصل. ولكن وحتى حدوث ذلك يجب ألا يتوانى الجميع في أن يَعضُّوا بالنواجذ ولا يفرطوا في دعم جريدة عمان والهيئة العامة للتفلزيون والإذاعة فيما حققتا من مكتسبات في السعي إلى حرية أعلامية مسؤولة في الأشهر القليلة الماضية. فمثلا لا ينبغي أن يفرط في بعض الأفكار الجميلة التي يمكن أن تتوارى أمام النقاش الدائر الآن حول هاتين الجهتين، في أهميتهما. فجريدة عمان في رأيي هي الأنسب من بين الجرائد القائمة الآن للمضي قدما في تطوير العمل الصحفي لأن الجرائد الأخرى مكبلة أكثر بالذي يمكن والذي لا يمكن، والتجاري وإلاعلاني، أكثر منها. لا ينبغي التفريط هكذا ببساطة في البرامج الحوارية التي تبثها الهيئة، ولا في قضية اليوم التي كانت تبث في نشرة أخبار العاشرة، والتي أعادت إلى حد ما الناس للجلوس أمام التفلزيون العماني. أما عن بيانات الكتّاب التي تصدر بين فينة وأخرى في هذه المسألة أو تلك فأتمنى أن تكون بيانات دقيقة علمية لا صدامية، وأن تكون واضحة الصياغة وأن يقرأها من يوقّعها لا أن يوقعها غيرهم عنها بالإنابة.
من المكاسب التي لا تخفى للحراك الذي حصل في العام المنصرم بِشرِّه وخيره، هذا الاهتمام من قبل الجميع بالقانون والشؤون القانونية. وقد شهدنا جميعا، بفرحة، ما آلت إليه الأمور من فصل الادعاء العام عن الشرطة، وفصل القضاء عن مجلس الوزراء. وهي مكاسب عامة لكنّ البعض الآن يتساءل عن هاتين المؤسستين، وأحياناً يشكك في عملهما. ولأكنْ دقيقا؛ فالتساؤل الأكثر والشك الأكبر كانا يدوران حول الادعاء العام وليس حول القضاء إلا بعد أن بدأت المحاكمات الحالية. فهناك أولاً امتعاض كبير من العديد من الناس حول الزج بالادعاء العام في المسائل الأمنية التي حصلت في العام المنصرم، وبالزج به في الآونة الآخيرة في ما يسمى بقضية “الكتابات المسيئة”. فالمراقب قد يرى أن الادعاء العام لم يوفِّ بالكثير من وعوده التي لم يكن أصلا مخولا بقطعها (التخويل الشعبي لا الفعلي أو الرسمي). الادعاء قام  بإعطاء الناس وعدا بأنه سيحقق في أمر مقتل الشابين أثناء الاحتجاجات في صحار، ولم يفعل ذلك، أو لعله فعل لكنه لم ينشر عنه شيئا. قام بالتخلي بسهولة مفرطة عن الدعوى الموقعة من قبل آلاف من الشعب حول مساءلة الوزارء والمسؤولين المُقالين. لم ينبس الادعاء ببنت شفة في قضية الرسائل النصية التي وُجِّهت للناس إبّان بداية الأحداث في صحار، والتي كانت مؤججة وأحيانا عارية من الصحة. فجأة يقوم برفع الدعوى ضد “الكتابات المسيئة” رغم أن هناك كتابات أخرى كانت موجودة بالفعل من قَبل من قِبل بعض الكتاب ولم يُحرِّك الادعاء ساكنا. قام بالسكوت الغريب بل وبالمشاركة أحيانا في نشر وتسويق الفكرة القائلة بأن “الاعتصامات السلمية” أمر مشروع مع أن نصوص القانون تجرم التجمهر. وهذا ما غرر بالكثير من الشباب فانساقوا وراء التضليل. ذلك لأن الرموز القانونية ممثلة في الادعاء، والرموز الحكومية والشعبية ممثلة في وزير العدل السابق ورئيس مجلس الشورى، والرموز الدينية ممثلة في المفتي العام، كل هؤلاء الرموز قاموا بحملة إعلان في وسائل الإعلام لنشر أمر غير قانوني وهو أن “الاعتصامات السلمية” أمر قانوني، وهو ما كان يفقهه الادعاء العام تمام الفقه. وهو أيضا ما دفع بالعديد من الشباب في الآونة الأخيرة للظن أن الاحتجاج السلمي ورفع الشعارات المنددة بما يظنونه ظلما أمرٌ جائز قانونا، الأمر الذي أوردهم مرادي الاعتقال. حين ظهرت قضية رمال بوشر لم يباشر الادعاء بالتحقيق في الموضوع. والغريب أنه أمام كل قضية أمنية فجأة يخرج الادعاء بإعلان يسبق التحرك الأمني بيوم أو يومين لينذر الناس!. وحين يُمرَّر قانونٌ يبدو للبعض، وأنا منهم، ظالماً، كقرار حبس المتهم في قضايا أمنية لمدة تصل إلى اسبوعين مع امكانية التمديد لفترة مماثلة وإعطاء الضبطية القضائية للجنود فيما يظنونه ماسا بالأمن، لا يتحرك الادعاء ولا خطوة واحدة في سبيل المطالبة برفض القانون واعتباره انتهاكا لحقوق الشعب. وطبعا بعد كل هذه الإخفاقات (نتكلم عن الجانب المتعلق بالقضايا المطروحة هنا، وليس عن مجمل عمل الادعاء العام)، يأتي الادعاء في سابقة حكومية غريبة ويعيِّن متحدثا رسميا ليقوم بـ”تعليم” الناس وتثقيفهم. يجب أن نقول الواقع علانية؛ فصورة الادعاء العام التي لدى الناس، أو بعضهم على الأقل، مهزوزة جدا، وتحتاج إلى ما يمكن أن يُسمّى إعادة زرع الثقة في النفوس وتطمين الشعب أن الادعاء يقف معهم ضد كل المخلين والمجرمين، المسيئن منهم واللصوص والسارقين والمزورين والمتلاعبين، الفقراء منهم والأغنياء.
أما فيما يتعلق بالقضاء فلا أظن أن ثمة لغطا كبيرا حول نزاهة القضاء؛ فالجميع يجب أن يحترم القضاء والقانون، والجميع يحب فعل ذلك. فقط هناك مسألة يجب أن تكون واضحة، وهي أن القضاء يقوم على النصوص القانونية ولا يجب ان يقوم على دفع أمني ولا سياسي. ولكي يحصل ذلك أرى أنه من الضروري أن تكون النصوص القانونية ذات صبغة قانونية حقيقية، أي أن تكون هناك طريقة قانونية لتشريع القوانين والعمل بها. فالحق أن قانون الاحتجاز هذا الذي يمتد شهرا، والذي يتم في غير السجون الرسمية المعلنة، هذا قانون يجب أن يناقش وتعاد صياغته لا ان يمر مرور الكرام على عيني الرقيب الادعائي. وكذلك فإن قانون إعابة الذات السلطانية الذي به حكم على بعض “الكتابات المسيئة”، هذا القانون الذي هو نص من نصوص “الكتاب الأبيض” لا يفصل بين عمل السلطان ورئيس الوزراء، وإن كان يفعل ذلك فالقضاء لا يفرق بينهما لأنه يستند ربما على قوانين فرعية مخالفة لنص “الدستور”. أما قانون التجمهر والاحتجاجات السلمية والكتابة والنشر والمطبوعات فيجب أن تعاد ضياغتها، فكل هذه تفرز دلالة جازمة على أننا في الطريق الصحيح للدولة  المدنية القانونية. يجب أن نمضي جميعا في اتجاه الدولة المدنية التي يكون فيها القانون هو الحكم والفيصل، مع هذا يجب أن تكون هناك جهة قضائية تقوم بالبت في مشاريع القانون وإلا أصبحت الحكومة هي واضع القانون ومنفذه.
أن تتدخل الجهات الأمنية في قضية “الكتابات المسيئة” أجده، ظاهريا، أمرا منطقيا. لكن أن تقوم بأكثر من ذلك وتحاول ان تزرع الخوف لدى بعض الكتاب من خلال “المناقشات الودية” في القسم الخاص، ومحاولة قراءة ما خلف السطور في الكتابات وتأويلها تأويلا أمنيا، هذا ما لا أجده عادلا. على الجهات الأمنية أولا ان تحاول مع الجهات القانونية المختصة أن تلغي قرار الاحتجاز الطويل. وثانيا أن تعيد تشكيل صورة متواضعة وواقعية عن ضابط الامن لتتواكب مع الاحداث الأخيرة التي شهدتها البلاد والبلدان العربية. لِأُفصَّل: يناط برجال الجهات الأمنية أمر أجده عسيرا عليهم، وهو التفكير في القضايا الاستراتيجة للبلد. الأمر عسير عليهم ليس لأنهم ليسوا أكفاء، لا، ولكن القضايا الاستراتيجية تحتاج إلى جيش من المختصين والعلماء والمفكرين. وهذا ما يجب أن يطالب به، وهو انشاء كيان مستقل للدراسات الاستراتيجية؛ يرفد الجميع بنتائج ودراسات محسوسة حين البت في أي قرار أمني ومصيري أو حتى عادي.
قبل الأحداث في عام 2011 كان رجل الأمن يظن إلى حد كبير أنه “المثقف” الواقعي الوحيد في البلد، وأنه الماسك بعصا التوازن الواجب قيامه في الحكومة. بل إن الصورة كانت تبدو أن الأمنيين هم من يقومون بالكشف عن قضايا الفساد في الحكومة، وهم من يحاولون أن يحموا الناس من فساد بعض المسؤولين. وكان الواضح من خلال الصورة أن الأمنيين منحازين تماما للناس وللحكومة المستنيرة في الصراع بين “اللوبيات” المحيطة بالسلطة. ومع أن هذه الصورة لا أستيطع تصديقها كليا إلا أن الجميل في الأمر أن تصديقها كان من قبل رجال الأمن أنفسهم أكثر من الآخرين. فلكأنهم صنعوا الصورة في البداية ونشروها ثم صدقوها هم أنفسهم أكثر من غيرهم. وطبعا هي صورة رائعة وجميلة حين تكون البلاد في وضع سلمي مُطمئِن، لكنها تبدأ في التعثر وتفقد بريقها حين تكون هناك احتجاجات ونزاعات واختلافات في الآراء.
لقد منيت صورة رجل الأمن بضربات كبيرة في السنوات القلية المنصرمة؛ فهناك قضية التنظيم الذي كان يراد به قلب نظام الحكم، والذي يبدو أن الكشف عنه جاء من مصادر خارجية لا داخلية. ثم جاءت قضية التجسس من قبل دولة مجاورة، والذي شابته احتمالية اختراق أمني على مستويات رفيعة، واحتمالية وجود اختلافات جوهرية بين الجهازين الأمنيين. ثم حصل التدخل الأمني في صحار وعَقَّب قتيلين وجرحى ونفوسا ناقمة. هذه الزعزعة الخارجية عَقَّبت زعزعة في الصورة الداخلية الجميلة للأمن، وحطمت التناغم الداخلي الذي كان مفروضا ومتقبلا في آن.
أرى أن يعرف رجال الأمن أن الكتّاب ومرتادي النت ومرتادي الشأن العام في كتاباتهم، هم وسيلة جيدة لقياس الآراء في المجتمع ومصدر جيد لا ينضب للآراء والأفكار المهمة. لذلك فالزج بهم وراء القضبان أو محاولة كبح جماح شهوتهم في الكتابة أمر يرتد سوؤه على الجميع وعلى الجهات الأمنية في المقام الأول. لأن الأمنيين حينها سيفكرون وحدهم وسينفذون وحدهم ، وسينتجون قراءت أحادية للواقع المعاش من حولهم. ولأنهم يهتمون بأمن النظام أكثر من اهتمامهم بأمن الناس، أو هكذا يطيب للبعض ان يصفهم، فإن أفكارهم ستدور دائما حول النظام ولن يكونوا قادرين على الخروج من الدائرة المغلقة لأفكار ضيقة وسطحية.
إن قراءة ما حصل خلال السنة المنصرمة على أنه أزمة وأن الحكومة قامت بحلها لهو أمر سطحي بكل معنى الكلمة. والحل الأمني الذي يتراءى للجهات الأمنية أو الحكومية هو حل غير مجدٍ لأنه يؤخر لحظة الانفجار فقط لكنه لا يطفئ الفتيل المشتعل. إلا أنه قد يكون مغرٍ لبساطته؛ فأن يكون هناك رأي واحد وطريق واحد لهو بالفعل أمر بسيط. لكن المجتمعات تتطور ولم يعد الناس حكر لرأي واحد تلزمه عليهم جهة واحدة أو وسيلة إعلام واحدة.
أما قراءة الأمر على أنه سوء أخلاق وتدنٍ في القيم فهذا بحق أمر مضحك. إن هذه القراءة بها تعالٍ مفرط. إنه إن كان التحريق وقطع الطرق والإعابة سوء أخلاق فإن هدر المال العام والفساد واستغلال المناصب هي سوء أخلاق أيضا. وينبغي قبل أن يُتكلم عن سوء الأخلاق أن يُعرف السبب الذي آلت به الآمور إلى ما آلت عليه. وإن كانت الإعابة سوء أخلاق فإن التشهير سوء أخلاق أيضا. وإن مضينا في هذا المنحى فسوف نرى تماما أن الأخلاق تتغير بتغير معطيات المجتمع، وليس من قبيل العدل أن لا توفر الحكومة أسباب العيش الكريم للناس ثم تطلب منهم أن يسكتوا.
أما قراءة الأمر على أنه تراخٍ في القبضة الأمنية على الناس فهذا منتهى السخف. الناس ليست مجرد أفواه مستهلكة تنتظر من يملأها. الأرض ليست ملكا لأسرة حاكمة ولا لشخص واحد أو جهاز واحد. وإن كان أعجبنا شيء منكم فقد ساءنا شيء آخر. أما ان تجعلونا جميعا معجبين وفرحين وحامدين ومسبحين فهذا لا يجدي أبدا وهو نفاق مذموم، ومغبته واضحة جلية.
وأمر التقدم والإصلاح في المجتمعات لا ينتهي بإصدار مرسوم أو قرار أو تحقيق رغبة للناس، وإنما هو أمر مستمر وجدل صاعد. والسلطة هي أولا وأخيرا للشعب فمنه يستمد الحاكم سلطته الحقيقية. وإذا كان الناس ينطلقون أحيانا من منطلقات خاطئة في قضايا معينة فهذا لأن المعطيات المتوافرة لديهم قد تكون محدودة.
أخيرا، لا عودة للوراء، لا عودة للمربع الأول. أتمنى من جميع المثقفين في هذا البلد، السياسيين والاقتصاديين والتربويين والأدباء والحقوقيين والعلماء ورجال الدين والنشطاء في الشأن العام، أدعوهم جميعا للكتابة في كل مجالات تخصصهم واهتماماتهم لكي يثروا الساحة بكل الآراء. فلا خوف من تعدد الآراء واختلاف المشارب فهي طبيعة البشر وعلى الحكومة أن تدرك ذلك وأن تكون حكيمة كما هي في بعض قراراتها. وعموما فالحرية لا تأتي مطواعة ولا توهب من قبل النظام والحكومة بل تكتسب وهي طريقة حياة. إني من هذا المقام “أحرض” جميع من لديه فكرة يحس فيها صلاح البلاد وتقدمها ألا يبخل بها عن الناس والحكومة.


[i]  أو: كي لا نعود إلى المربع الأول