أقدم هنا وجهة نظر حول رواية حسين العبري الأخيرة: "الأحمر والأصفر". أعتقد أن للرواية بنية منطقية، تطغى بشكل موارب على بنيتها الأدبية. إلا أنها، وفي سبيل شكلها الأدبي، اتسمت بأحداث متعددة (مُرمزة) تضمرُ المنطق خلفها. أعتقدُ أن القرية الجبلية في رواية الأحمر والأصفر كانت رمزاً لهذا البلد، وسالم: لم يكن مراهقاً عبقرياً، بل رمزُ من يعمل تفكيره وفق المنطق الرياضي. وعليه أعتقد أن الفصل الأول لم يكن إلا مقدمات رياضية قياسية، وتضمن الفصل الثاني النتائج، وهي نتائجُ متوقعة في معظمها.
ينبغي التوقف قليلاً مع العبقرية التي مهد لها السارد في بداية المقدمة بدقة لأنها المفتاح لفهم إيحاءات الرواية. إنها عبقرية فريدة. فهي عبقرية لم يستمدها البطل من المكان أو الزمان أو الجينات أو التربية. حاول السارد نفي أية مصادر محتملة للعبقرية التي تحلى بها البطل، والتأكيد بشكل متوازٍ على "عاديته" مع أقرانه في القرية. والقرية، إنها تلك القرية فوق جبال الحجر، قرية معزولة عن العالم، تنعم في وداعة الاستقرار والهدوء.
البطل يشبه أقرانه في كل شيء، باستثناء مقدرته الفذة (المستمدة مع عبقريته) على التجريد والتفكير الهندسي الشكلاني. تجلى هذا في الخطوط الهندسية البارزة التي يسيرُ عليها تفكير البطل في علاقاته مع زميليه العمانيين، وفي استقراءاته للموسوعة التي حصل عليها، ورؤيته للأجسام من أعلى كأشكال ذات حدود خارجية، خطوط هندسية تملأ الفراغ لتعطي كتلة أو أجساماً (أو أية كميات فيزيائية أخرى). وهذه البنية الرياضية في التفكير لم تكن جامدة بل ديناميكية متغيرة. فسالمُ يتعلم من خلال المشاهدات والأزمات. عقله قائم على التأمل ثم التحليل واستخلاص النتائج. تكرر هذا في أحداث اختياره لأصدقائه، ثم وقوعه في الغرام ومقارناته بين محبوبتيْه، والمشاكل في المدرسة، وعزلته التأملية عقب العقاب الذي حل به.
أما المجتمعُ المطمئن المعتاد، فمثله الأصدقاء وأهل القرية وبقية الشخوص المتشابهة في جوهرها. ولربما صوره بدقة بالغة الأستاذ زاهر صاحب الموسوعة التي ملكها لكنه لم يقرأها، أي لا يستفيد مما فيها. وإمعاناً في المعنى يقول السارد إن الموسوعة ليست ملك ذلك الأستاذ، إنما تعود لأخيه المغترب في الولايات المتحدة. ويمثل هذا إيحاءً آخر أن شخوص الرواية (باستثناء البطل) والقرية لم يمثلوا إلا المجتمع العماني الساكن والمستقر، وأن المناهج التفكيرية متوفرة، لكن لا يتم الاطلاع عليها. والبطل سالم لم يكن رمزاً لمراهق عبقري كما يبدو للوهلة الأولى بل كان رمزاً لمن يرى من أعلى، أو لمن يرى ما لا يُرى، أو لمن يقوم بعمليات تفكيرية تشملُ التجريد والتعميم الذهني. وبطبيعة الحال لا تعنينا هنا الأفكار التي توصل إليها سالم، لا لأنها لا تهمُ بحد ذاتها، لكن لإنها نتيجة لعملية تفكيرية ميكانيكية. والعبقرية التي وُسِمَ بها البطل، لم تأتِ بسببِ طبيعة الأفكار، لكن بسبب طبيعة التفكير. فالفكرة متوفرة دومًا (قد تكون في "التهافت" أو "تهافت التهافت") لكن لن يكون صاحبها بالضرورة أبي حامد أو ابن رشد.
الرواية تنقسم لمقدمة أو فصل أول (بها النظرية، أو الإعداد، أو صناعة البطل وطبيعة عملياته الذهنية)، وتطبيق أو نتائج سماها المؤلف الفصل الثاني، فيهِ يُرمَى البطل لمسرح الأحداث، ليؤكد الأسس التي ينطلقُ منها. هذا الانقسام هو تقسيم علمي، رياضي: مقدمات ٌ، ثم البرهان.
لكن هناك نقطة شاذة. موقف لا يجد مكاناً في وجهة النظر هذه. إن سالم الذي تتكيء عبقريته على التفكير الرياضي تفاعل إيجابياً مع محنة الخادمة التي كانت تتعرض للاغتصاب. أحس بالمسؤولية وحاول المساهمة في رفع الظلم عنها عبر تهديد مغتصبها بالفضيحة. ولم أجد مكاناً لهذا في عقل سالم. لربما كانت ردة فعل سالم غير عقلانية في ذلك الموقف، أي أنها لا تصدر عن عملية تفكير عقلية. ولكنه تصرف وفقاً لتفكيره المعهود عندما تعرف على زوجة المتغصب، وقرر تعميق المعرفة أكثر مما يسمح العرف.
****
أسلوب الميتاقص لا يوهم بالواقعية في السرد عادة. فالكاتب يخبر القاريء أن ما سيقرأه هو قصة أو مذكرات أو أشياء مفتعلة. لكن السارد العليم في "الأحمر والأصفر" كان يوهم بالواقعية رغم استخدامه أسلوب الميتاقص عبر تلاشيه أثناء الرواية، ليتوحد مع الفتى سالم في السرد، ولينطق بحاله وتفكيره. وإذا قرنا هذه الملاحظة مع الشاهد في رواية الوخز فنستنتج حينها أن الراوي الخارجي العليم في الرواية هو تطور محتمل للشاهد، أي أن الرواي العليم أو الشاهدُ يعبر عما لا يستطيعُ البطل التعبير عنه مباشرة، أي أنه لسان آخر للبطل (وهو سالم في الأحمر والأصفر). يقودنا هذا لاستنتاج آخر، أن بطل "الأحمر والأصفر" سالم لم يمت في النهاية الهلامية للرواية، بل أخذ دور السارد العليم ليسرد قصة حياته ولو بعد حين. وهذا يدفعنا للتأمل إن كانت رواية الأحمر والأصفر رواية سرد ذاتي!!
****
هل يمكن أن يتحلى سالم بتلك العبقرية وهو في تلك السن؟
سؤال قد يطرحه كثيرون خاصة وأن السارد العليم قد بالغ في تبجيل تلك العبقرية. لكن من خلال ما تقدم نرى أن هناك مستويين لسالم. فهناك سالم المراهق الحاد الذكاء، وهناك سالم رمز الذي يرى ما لا يراه الآخرون. وأعتقدُ شخصياً أن المجتمع ينتج أفراداً يتحلون بتلك العبقرية (في كلا المستويين). ولربما كان مؤلف "الأحمر والأصفر" أحدهم. لعله يرى ما لا نرى. أو لعلنا نرى ما لا يراه.