كتابةٌ على حَجَرٍ بنصل حاد، لن تمحى. كتابة كبيرة تملأ الأبْعَاد والأجزاء. مسحَ عرقه، وانتصب. انتصبتْ الشمس في كبد السماء. فعلوا كما فعل، على الصخور والعظام المتبقية. جمعوا الأجزاء: بناءٌ يتسعُ كل حين. لا شيء يقلقُ الكون سوى القلق في قلوبهم: لقد أتعبوا.
*****
وجدتها على الشاطيء. كبيرة كانت ومتحجرة. صدفتاها جامدتان، لا تنفتحان حتى تحت الضغط الشديد. شكلها الغريب دفعني لأخذها للمختبر. رأيتُ خيوطاً منتظمة تخرجُ أفقياً من نقطة فيها، ثم تنتشرُ في كل ربقة. لا تلبث الخيوط حتى تنكسرُ لتأتي عمودياً على الخيوط الأفقية. لم تكن الخيوط العمودية مكتملة. ولم ألحظ في المرة الأولى أنها كانت تكتمل.
لم تكن صدفة كما خيل لي. كانت حجراً به تشكلات رسوبية تشبه صدفة المحار. لونها الأبيض ذي الطيف الأحمر أوحى لي بذلك. على جدارِ الصدفة الداخلي رسوم ثلاثة ونقش عتيق. آه، كم كنتُ غبياً عندما ضيعتُ وقتي في المختبر. حسبتُ أني أرَى ما تحتْ المجهر. لم يكن إلا رمزاً أو خيالاً أو قصة.
*****
جماعة طويلة تدخلُ التاريخ، تلاحق الشفق. يرتحلون شرقاً. يسيلون خيوطاً من بعيد، يتجمعون تحت كرة الشمس كأسراب الطيور ثم انقضوا حيث مضى بهم. أمامَهُم كان من روضَ الخيل وانطلق في رحلة قومه. ليس قديماً أو حديثاً. رجلٌ وسط عمره. ظل هكذا أحقاباً مديدة. لم تتبدل ثيابه: رداء من صوف، ورقعٌ اشتقت من جلد جمل كانت في قدميه، ونصل حاد تحول لسيف صقيل في الآباد القادمة. تبعوه عبر الصحاري والسهوب التي بلعها التاريخ في دورته الأخيرة.
"كُلُهُم تحتُ هذا الماء".
كان اسمه دومن ذغيمن. بنى بيته على السفح، من سعف النخيل إلا أن سقفه المفتوح يتداخل مع السماء. جعل نصله التماعة الشمس، وزَرَعَ الشجر، وفرق الليوث والجوارح والفئران والماشية في المراعي. سكنت بيته قبائل وممالك عديدة. كانوا كلهم أبناءه. اكتمل علمه وقوته، فصنع أول ساعة. ساعة كبيرة ، وضعها على الجبل.
سئله أهل الوادي: لم الساعة؟
“الساعاتُ تؤخر الوقت”، قال دومن ذغيمن.
تناسلتْ البيوتُ تحت بيته. وصلت هنا على البحر، وامتد الوادي حتى هُنا. نشأ ميناء، وصنعوا سفينة ثم ركبوا البحر وأتوا. كرروها مع السنين حتى ذهبوا ولم يأتوا. ضرب دومن بعصاه. البيوتُ اختفتْ، والبحر صار مالحاً، لكن الوادي مازال يصبُ في البحر. الساعة ظلت تدورُ في أبعادها، والأبعادُ تفترقُ كل لحظة.
***
أخذتها للمكتبة الشرقية: مجلدات عتيقة كتبها العربُ الأوائل، ونقوش مسندية تعود للحميرين الجنوبيين، ورحلاتُ المستشرقين، وكتب الأسرار القديمة إلى جانب كتب اللغة وتكون الاستعارات. مكثتُ هناك بالمجهر والعدسة المكبرة. أقرأ وأرى في الصدفة. “إنها ملأى بالرموز والاستعارات”. يتدفقُ الضوء من العدسة المكبرة، وينهمرُ في الصدفة. تجذبه بشكل متسارع حتى يغيبَ الضوءُ فيها، وأبقى وحيداً في الصدفة.
هناك كتابةٌ على حجر، ونصل حاد يتحول رويداً لسيف صقيل ثم لمدفع، وساعة تؤخر الوقت، ومجنزرات هندسية تحركُ الكون بشكل غير منتظم تختلطُ معه الأبعاد، واستعارةٌ كبيرة اسمها الوقتُ يُختَلقُ فيها معنى الزمان، وميناء يغرق في البحر، ولغة تحولها المجنزات إلى جسد أثري. يا عَالَم الصَدَفَةِ النابض، يا عالمي البائس: أين أنا؟.“حمدم وشكرم أولدم إل مقه” نقش على صدفة البحر. دومن ذغيمن من نزل صلان.
***
غبارٌ ينسكبُ على ورقة، ورمل يتوالد على شقٍ صغير في حَجَر يتحول ببطءِ الكون إلى محارة. وريح عاتية تنبعث من كتاب. لا مجال للشك في ما يُرى. لكنهم لم يروا، فقد ماتوا حقاً.
****
أربعون سنة قد مضتْ منذُ أتيتُ للدنيا، أربعون سنة منذ ارتيادي هذا الشاطيء كل يومٍ أبحثُ عن السرِ. “انظروا صدفة كبيرة”، قلت لهم. لم يروها. يظنونَي أهبلاً مجنوناً. لن يراها أحدٌ كما أراها أنا. اختفت في الصدفاتِ الحقيقةُ. “يرى الشيخُ كل شيء”. لستُ شيخاً، لكني أشيبُ الشعر منذ الطفولة. هَرِمُ المظهر رغم الأربعين. لقد استدار الزمان دورته.
****
أبحثُ عن ورقة للترجمة فلا أجدْ، لكنها تقرُ في ذهني. ذلك الذهن العجيب، وعاءٌ يملأه ماءان: عذب ومالح. تملأه كلمة أو لغة. كلمة من بحر ووادي في ظلمة كثيفة. حينما يستديرُ الزمان لا تجدهُ، لكن تفقدُه بالمُطلق. كلمةً فكلمةً: الحمدُ والشكرُ..
***
على جدارِ الصدفة: رسوم ثلاثة ونقش عتيق. دومن يرسمُ النقش وحوله أهل صلان، دومن يُغْرِقُ صلان تحت مياه البحر، ودومن يتربصُ بصلان الناشئة لتغيبَ تحت المياه. رسومٌ ثلاثة لا تلتقي. أبعاد مختلفة في الزمن. صدفة كتبها دومن تكون نقطة الالتقاء، وبها يعتدلُ الوقت.
****
وقتُ الشفق: شمسٌ غاربة في البحر ربما للمرة الأخيرة، ودومنُ يجلسُ القرفصاء بقرب أولاد يلعبون الكرة لا يرونه، ويهمسُ بما في الصدفة من رموز لكن بلسان أهل هذا الزمن. أسمعه جيداً، لقد استدار الزمانُ دورته. يأتي الصوتُ من الموجِ: الحمدُ والشكرُ أولاد المقة، الحمدُ والشكرُ. وهناك من الشفق سيارة تأتي من بعيد، من الشفق، تنقذ صلان. لكن، أتصلُ قبل الغروب؟