عندما نضع بعضًا من الملح في قاروة ماء فإن تفاعلاً كيميائياً يحدث. التفاعل يحدث نتيجة لمواد تتفاعل لتنتج مادة جديدة ذات مواصفات تختلف عن المتفاعلات. بهذه المقدمة البسيطة نلج ببساطة ملف التفاعل الحضاري الذي بدوره يحتاج لِمتفاعليْنِ على الأقلِ. الأول سيكونُ نحنُ و الثاني سيكونُ الآخر.
قبل أن نتجه لتحديد طبيعة التفاعل و سيره لا بدَّ لنا أولاً من معرفةِ العناصرِ المتفاعلة. " نحن " هو مجموعة الشعوب التي تربط بينها وحدة قيمية ذات خصائص حضارية واضحة حالياً و ثابتة على المستوى المنظور. بهذا التعريف البسيط فإننا نستثني وحدة المكان من السمات المشخِّصة لهذه المجموعة التي رمزنا لها ب " نحن ". و يرمز الكاتب ب" نحن" أغلب ما يُسمى بالأمة الإسلامية كمجموعة حضارية واحدة. أمَّا الآخر بدوره فهو ما يُستثنى بموجب التعريف السابق. فهو ذو سمات قيمية تختلف عمَّا يميز الأمة الإسلامية.
التفاعل الحضاري قد يحدث بأشكال مختلفة و تحت ظروف مختلفة، و كل اختلاف في البيئة المحيطة بالتفاعل يقود إلى تمايز واضح في الناتج. على هذا الأساس تباينت الرؤيات في أمتنا تجاه هذه التفاعلات بين قبولٍ مطلقٍ به أو رفض مطلق له. و لعل من نافلة القول أيضًا الإقرار بوجود رؤىً أخرى تمازجُ بينَ هاتين الرؤيتين الراديكاليتينِ.
التيار الأول ينادي بإيقاف التفاعل الحضاري مع الآخر أيًّا كان و مهما كان. يؤمن هذا التيار أنَّ التفاعل الحضاري هو البوابة الكبيرة التي تقود إلى التفسخ القيمي و ذوبان الشخصية الحضارية المميزة لهذه الأمة. إضافة إلى ذلك يصف هذا التيار التفاعل الحضاري كمقدمة و استهلالاً للتبعية السياسية و الفكرية للأمم الأخرى. بناءً عليه، اتخذ هذا التيار وصفات دفاعية و هجومية في آنٍ واحد لإيقاف هذه المعضلة حسب تصوره. تناولت النقلة الدفاعية أبناء الأمة ليوجههم بالرفق و الشدَّة لمنهجه الذي عرض كثيراً من خطوطه. اسلوب الرفق تمثل في انتشار الكتاب و المحاضرات و مواقع الإنترنت التي تعنى بغرس أفكاره في المتلقين. أمَّا اسلوب الشدة فتمثل في استخدام سلاح الفتاوى التي تكفر أبناء الأمَّـة الذين تفاعلوا فكرياً مع الآخرِ. نتج عن هذا تكفيرُ الشرائح العلمانية و الليبرالية و الحقوقية المتفاعلة فكرياً مع الآخر. نرى بوضوحٍ هذا المنهج في تصريح أسامه بن لادن رئيس تنظيم القاعدة حين قال: " إنَّ العالم انقسم إلى فسطاطين: فسطاط الحق، و فسطاط الباطل" و بالطبع لكل فريق أهله و من يواليه. تأثراً بهذه النظرية سقط الكثير من المسلمين – أساساً- ضحايا بأيدٍ مسلمَــةٍ.
مما يُأخذ على هذا التيار نقطتان رئيسيتان. النقطة الأولى هو تمجيده للتفاعل الحضاري الإسلامي الذي قاد المسلمون نواصيه في حواضر العالم الإسلامي قبل 13 قرناً ، بينما يرفض بشدة مثل هذا التفاعل في هذا العصر. النقطة الأخرى التي التبستْ على هذا التيار هو تفريقه التام بين جانبيِّ الحضارة الأساسيين: الجانب الفكري، و الجانب المادي. هو يقبل شيئاً محدوداً من الجانب المادي و يرفض في الوقت نفسه الجانب الفكري كخيار واردٍ للتفاعل. هذا التفريق التام أهمل أن الشق المادي للحضارة هو ناتج لشق فكري. و أهمل أيضًا أن استخدام الجانب المادي الحضاري سيقودنا لا محالة لأجواء القيم الفكرية و الفلسفية التي أنتجها الآخر. فالعملية طردية من كلِّ الجهاتِ.
النظرة الأخرى التي توجد في مجتمعنا تؤمن أنَّ التفاعل الحضاري هو ضرورة في هذا الزمن. هذا التفاعل يتم في الأفكار و الأدوات و وسائل الإنتاج. و لأنَّ أمتنا توقفت تقريباً منذ قرونٍ عديدةٍ عن الإنتاج المادي و الفكري، فلا يرى هذا التيار بأساً في استيراد الأدوات المعرفية و المعرفة ، و استيراد المنتج و الأدوات الإنتاجية أيضًا. هذا الاستيراد ضرورة لإعطاء جرعة حضارية تقوم برفع مستوانا الحضاري الذي ليس في أحسن حالاته حالياً. يُستخدم هذا المستورد أيضًا لخلق صدمةٍ قويةٍ للتراثِ بغرض تحديثه و انعاشه و جعله واقعاً معاشاً أكثر منه تاريخاً مقروئاً. الذي يسند هذا التيار طبيعياً هو الاختفاء التدريجيُ للقيود المفروضة على انتقال القيم و الأفكار و العقائد و المنتجات تحت مسمى " العولمة ". هذا الوضع جعل التيار الحداثي يرى أن مبادئه تتحقق أرضياً في عمليةٍ تزداد تلقائية باختفاء الموانع و الحواجز.
باستساغة الأمة للجوانب المادية التي أتت إليها نتيجة للتفاعل الحضاري يقطع هذا التيار نصف مشواره في سبيل تحقيق رؤيته.ِرغم هذا ، يظل النصف الآخر من هذا المشوار الذي يتمثل في تواجد الجانب الفكري للآخر ضمن خيارات الأمة الفكرية يبدو ليس قريباً كقرب الجانب الآخر. يرجع السبب في هذا إلى أنَّ الإنسان لا يميل إلى التجديد في قناعاته الفكرية بل يميل إلى التقليد و الركود في أغلب الأحيان.
يُأخذ على هذا التيار محاولة استنساخه التجارب الحضارية الأخرى لتثبيتها على الأمة الإسلامية. و هذا بدورهِ لا يدعو إلى الإنتاج الفكري بل هو طريق مؤكد للجمود الفكري بعنوان و مفتاح آخر. و يدفع الحداثيون هذا عنهم باستدراكهم أن الروح الحضارية للأمة لا تغيب، و أمَّا الأشياء الأخرى فهي انعكاس للتطور الطبيعي في الفكر البشري.
برأيي المشكلة بين التيارين هي مشكلة ثقة و مصطلحات في المقام الأول. التيارُ التقليدي لا يرفضُ الآخرَ رفضًـا قاطعًـا بلْ يُنادي بانتقائيةِ التأثُـرِ ، و اختياريـةِ الخيارِ الثقافي. و هذا يدلنا على وجود نسبة معينة للاستيعاب من الآخر يستطيعُ التيارُ التقليدِي قبولها في أدبياته و عملياته. نعم ، هُنَـاكَ تيارٌ يُنادي بالتجديدِ أو بالتلاحُمِ معَ الأممِ الأخرى في الثقافةِ الإنسانيةِ و العمليةِ تأثيراً و تأثراً. هذا لا يُغيبُ الهويةَ الإسلامية لأنَّ الهويةَ الإسلامية أصـلاً بصورتهَـا النقيةِ لا وُجودَ لهَـا على أرضِ الواقعِ. هويتنـا الحاليةُ هي نتاجُ تلاحمٍ حضاريٍّ فيمَـا مضى ، تركَ أثراً فيمَـا بقى. بهذا نستطيعُ الآنَ القولَ بأنَّـهُ لا يوجدُ الطرفُ الرافضُ للآخرِ رفضًـا قاطعًـا في أمتنَـا. هناكَ اختلافٌ في حجمِ الجُرعَـةِ التِي يجبُ تلقيهَـا من الآخر.
(...بهذا نستطيعُ الآنَ القولَ بأنَّـهُ لا يوجدُ الطرفُ الرافضُ للآخرِ رفضًـا قاطعًـا في أمتنَـا. هناكَ اختلافٌ في حجمِ الجُرعَـةِ التِي يجبُ تلقيهَـا من الآخر.) - حمد الغيثي
ردحذفتساؤل عابر قد يكون غبياً:
ألاحظ أن تيار الفسطاطين تيار يقوم بجميع أعماله الجهادية والرسولية التبشيرية عبر أدوات التكونولوجيا الأحدث بحرفية، واستيعاب ممتاز لاستخدام الآلة، ويعتبر بأن تلك الأدوات قد سخرها الله له لإداء رسالته وجهاده، وأن (الكفار) صنعوها بمشيئة إلهية لتستخدم ضدهم وتهزمهم وتفرق شملهم، وبما أنهم كغيرهم من البشر الذين يعيشون اليوم على الكرة الأرضية لا يمكنهم العيش بدون تلك الأدوات فإنهم يستخدمونها ويتمتعون بها، وفي نفس الآن ينادون بزوالها وأنها مسألة وقت ويتم التخلص من هذه المدنية والحداثة وأدواتها وأنماط عيشها، ويعم بزوالها السلام والأمان والمجتمع النقي المثالي، ويصرون( ومنهم من يصرحون بذلك علناًهنا في عُمان) على أنها مسألة وقت فقط.. فهل هذه حالة فكرية؟ اختلاف فكري أو جمود فكري فقط، أم أنها حالة مختلفة تماماً تحتاج إلى توصيف وتشخيص غير (فكري) فقط!؟
مجرد تساؤل عابر لا يضمر أية محاولة للإجابات الجاهزة.
استمعتُ بقراءتك.
أهلاً يا ممنوع من الكلام،
ردحذفنعم أتفق معك في وجود هذا التيار المتنبيء بسقوط الحداثة العالمية لترجع الأمور كما كانت في القرون الوسطى سادة على العالم بدينهم الإسلامي "السمح"!
إلاّ أن هذا التصور بعيد جداً. برأيي: الاحتمال الوحيد لحدوث هذا هو مع ظهور المهدي المنتظر -هذا إن كنت تؤمن بالنصوص الدينية-.
التيار الرافض للحاضر والمنادي لعودة الماضي هو تيار يعيش في شروحات الماضي فقهه وعقيدته وتاريخه. إنه لا يستطيع تصور الحاضر لأنه لم يندمج معه ولم يهضمه، بل حتى لم يفهمه. إنها الزوبعة الأخيرة قبل لفظ نفسهم للأبد. الشيء الوحيد الذي يطيل عمر هذا التيار هو تسلط الغرب وحربهم ضد الديار المسلمة لمصالحهم الخاصة. لولا هذا لاكتسح الليبراليون المسلمون الحاضر السياسي والمجتمعي في البلاد الإسلامية. لا تنسى من المشهد مصر الملكية قبل ثورة الضباط الأحرار، وعراق نوري السعيد، وسوريا الليبرالية قبل انقلاب حسني الزعيم -وبالمناسبة هو أول انقلاب عسكري في الدول العربية-.
هذا التيار الأصولي صاحب نظرية الفسطاطين يمر بحشرجة الموت..
سنتذكرهم في التاريخ عما قريب.
تحيتي لك
انظر إلى المجتمع العراقي الذي بدأ يلفظ القاعدة في مناطق السنة.
ردحذف