الترانزستور الحي
ناشد دارون قرائه على رؤية العظمة في رؤيته للطبيعة، كيف أنه من بداية بسيطة جداً، قد تطورت -ومازالت تتطور- أشكال لانهائية أكثر جمالاً.
شون كارول
لابد أن نقف لبعض الوقت متفكرين في تطور العلوم. هذه الوقفة البسيطة هنا هي للتأمل في "المنطق" البشري وانعكاسه على العلم الذي نصنعه إثر تقرير علمي نشر قبل أيام موثقاً تشييد أول ترانزستور حي.
نتمتع نحن البشر بقدرات منطقية "فطرية" مطبوعة بدماغنا؛ نتيجة لتركيب هذا الجهاز الساحر المسمى دماغاً. يتجلى هذه المنطق الفطري في النحو الذي تُبنى عليه لغاتنا، وفي علامات الترقيم (التي هي علامات منطقية تماماً). طُور هذا المنطق الفطري لاحقاً في الرياضيات المجردة وفي النماذج الفكرية الخالصة. إننا نرى العالم من خلال هذا الدماغ الذي اتفق أن كان على ما هو عليه. إن المعرفة المنظمة، أو ما يُسمى بالعلم، تحملُ سمات منطقنا الفطري أو المُركب.
هناك تجلي ظاهر للمنطق البشري في الأحياء الحديثة. اكتشف جاكوب ومونود في خمسينات القرن العشرين أن الجينات تعمل وفقاً لمنطق معين واضح. فالجين متوقف عن العمل إن اعترضه كابح، ويعمل إن غاب هذا الكابح، وينتج عن هذا الوضع مقبسٌ جينيٌ يمكن وصفه في الخطوط التالية:
الدائرة الجينية + (كابح)= لا نتيجة
الدائرة الجينية + (لاكابح)= نتيجة
في العقود التي توالت اكتشف العُلماء أن مقبس جاكوب ومونود (ونظرائه) غير منعزلين في دائرة جينية واحدة، بل يشكلون دوائراً جينية غير معدودة تكمن في كل كائن حي. يمكن تشبيه مقبس جاكوب ومونود بدائرة كهربية بسيطة مسؤولة عن تشغيل مصباح في غرفة بمسقط، لكن في مسقط آلاف الدوائر الكهربية المسؤولة عن إمداد وتوزيع وتنظيم استخدام الطاقة، وهكذا هي المادة الوراثية مكونة من آلاف الدوائرة المنطقية.
استغل علماء الأحياء هذا المنطق في أبحاثهم المؤثرة. هذا المنطق، منطق جاكوب ومونود، بسيط وخطي إذ أنه يتقصر على عامل واحد في الدائرة المنطقية. يمكننا أن نرمز لهذا العامل بالرمز المنطقي "و":
دائرة جينية "و" كابح تعطي "لا نتيجة". وهكذا دواليك.
تجلى استخدام هذه الدائرة في الهندسة الوراثية في تشييد الجين المذيع Reporter Gene. فمثلاً يذيع هذا الجين لمُعد التجربة العلمية حالة جين آخر: يعمل أو لا يعمل. تمكن العُلماء باستخدام هذا المنطق البسيط من اكتشاف الكثير من الظواهر الكامنة في المواد الوراثية للكائنات الحية، وكيفية تفاعل هذه الكائنات مع البيئة المحيطة.
لكن ظهرت جهود محمومة منذ ما يزيد على العقد لزيادة تعقيد المنطق المستخدم في دراسة الكائنات الحية. إن علاقة "و" لم تعد مرضية. لاحت في الأفق فرصة لاختراق علمي، غير أن كل المحاولات التي بذلت لم تحقق الكمال المنشود.
تغير الوضع قبل أسبوعين حينما ظهر تقرير في مجلة ساينس تحت عنوان "تضخيم البوابات المنطقية الجينية" من مختبر درو إندي من جامعة ستانفورد. يقدم مؤلفو الدراسة حلاً لمشكلة "زيادة تعقيد المنطق في دراسة الكائنات الحية" عبر اختراعهم لجهاز جيني شبيه بالترانزستور اسموه الترانزكربتور transcriptor (مشتق من عملية النسخ الأحيائية).
يركب هذا الجهاز - المكون من أشرطة دنا وبروتينات- في المادة الوراثية للكائن الحي المطلوب، والذي كان في التقرير بكتيريا الإيكولاي. يحتوي الترانزكربتور على ٣ منصات: مدخلات input، مخرجات output، ضوابط controls، وقادر على القيام بعدة عمليات منطقية بسيطة وأخرى معقدة مثل: AND ، NAND ،OR ، NOR ، XOR ،XNOR. وإن كانت مدخلات هذا النظام "أ"، و"ب"، ومخرجاته "ج"، فيمكننا توصيف العلاقة بين المدخلات والمخرجات كالتالي:
العلاقة AND: ٠ أ+ ٠ب = ٠ ج
١ أ+ ٠ب = ٠ ج
٠ أ+ ١ب = ٠ ج
١ أ+ ١ب = ١ ج
العلاقة NAND: ٠ أ+ ٠ب = ١ ج
١ أ+ ٠ب = ١ ج
٠ أ+ ١ب = ١ ج
١ أ+ ١ب = ٠ ج
العلاقة OR: ٠ أ+ ٠ب = ٠ ج
١ أ+ ٠ب = ١ ج
٠ أ+ ١ب = ١ ج
١ أ+ ١ب = ١ ج
العلاقة NOR: ٠ أ+ ٠ب = ١ ج
١ أ+ ٠ب = ٠ ج
٠ أ+ ١ب = ٠ ج
١ أ+ ١ب = ٠ ج
العلاقة XOR: ٠ أ+ ٠ب = ٠ ج
١ أ+ ٠ب = ١ ج
٠ أ+ ١ب = ١ ج
١ أ+ ١ب = ٠ ج
العلاقة XNOR: ٠ أ+ ٠ب = ١ ج
١ أ+ ٠ب = ٠ ج
٠ أ+ ١ب = ٠ ج
١ أ+ ١ب = ١ ج
إن ترانزكربتوراً واحداً قادر على تنفيذ العمليات المنطقية أعلاه داخل الخلية البكتيرية الحية. إنه يجعل الخلية تستخدم "منطقاً متقدماً" لمصلحتنا لا لمصلحتها. كيف يمكن أن نستفيد من مثل هذا الاختراع؟ قرأنا بالأعلى عن الفوائد الجمة التي تمتع بها المجتمع العلمي والإنسان عموماً من منطق جاكوب ومونود، لكن الفوائد القادمة ستكون مذهلة بشكل غير مسبوق. يتيح الترانزكربتور صناعة حساسات حية biosensors معقدة، لتستطيع هذه الخلايا البكتيرية "تحسس" أو "تشخيص" إشارات مختلفة لتقوم بمخرجات نختارها بعناية. إن وضعنا علاقة AND موضع العمل، يمكن مثلاً لهذه الخلايا البكتيرية المنطقية إنتاج نوعاً معيناً من الأجسام المضادة antibodies إن استشعرت -في ذات الوقت- جُزيئين اثنين لسرطان القولون، لكنها لن تنتج هذه الأجسام إن استشعرت جزيئاً واحداً فقط. يمكن أيضًا أن تقوم هذه البكتيريا، مستخدمة العلاقة المنطقية ذاتها AND، بإرسال إشارة مضخمة لخلايا جهاز المناعة كي تقضي على السرطان عند استشعارها لهذين الجزيئين. وعلى ذات المنوال، يمكن برمجة الخلايا البكتيرية -وغيرها من الخلايا-، لإنتاج أدوية داخل الجسم، أو الكشف عن الملوثات في الجو أو مياه المجاري أو أية مهمة أخرى نختارها. لا يتخلف هذا -من حيث المنطق- عن البرامج الحاسوبية التي يبدعها المبرمجون والتي تتيح لنا القيام بوظائف عديدة ومهمة دون أن نقوم من مقعدنا.
لكن كيف سيكون الوضع إن ركبنا جهازَيْ ترانزكربتور داخل الخلية؟ سوف تتضاعف المقدرة "المنطقية" لهذه الآلة. لذلك يمكن القول أن الترانزكربتور خطوة حاسمة لتكوين جهاز كمبيوتر داخل خلية حية.
ينبغي أن نذكر هنا أن درو إندي وتلاميذه وضعوا حجرين آخرين في مسيرة صناعة الكمبيوتر الحي. تمكنوا في وقت سابق من تطوير واي فاي حيوي Bi-Fi (إنترنت)، أي أنه يمكن للخلايا البكتيرية المبرمجة إرسال outsourcing أشرطة دنا DNA معينة لخلايا بكتيرية أخرى، ويعني ذلك أنه بالإمكان إرسال واستقبال المعلومات الوراثية بين الخلايا الحية. الحجر الآخر كان تطوير خلايا بكتيرية قادرة على تخزين مادة الوراثية ما، ويشبه هذا جهاز يو إس بي USB قادر على تخزين المعلومات المطلوبة.
هذه الأسس الثلاثة، "إرسال واستقبال" و"تخزين" و"المعالجة المنطقية" للمعلومات تشكل الطلائع الأولى للكمبيوترات الحية القادمة.
إنه منطقنا الجميل، منطق دماغنا، الذي نعكسه في العلاقات الرياضية، وفي الأجهزة المبرمجة سواء كانت مصنوعة من السيليكون أو من دنا وبروتينات.
إنه منطقنا الجميل، منطق دماغنا، الذي نعكسه في العلاقات الرياضية، وفي الأجهزة المبرمجة سواء كانت مصنوعة من السيليكون أو من دنا وبروتينات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق