تفجرت احتجاجات مدينة صحار بُعمان صبيحة ٢٦ فبراير. ولعله يمكن القول أن المتظاهرين والسلطات الحكومية لم يتوقعوا مستقبل سير الأحداث. توقع سير أي حدث يقوم على تحديد صانعيه والمؤثرين فيه. بينما في حالة صحار، كان ظاهراً للعيان أن المتظاهرين -المعتصمين لاحقاً- لم يكونوا تنظيماً واحدًا، وبالمثل كانت السلطات الحكومية التي تدخلت في مجريات الأمور عبر مؤسسات مختلفة حمل كل منها سياسة معينة للتعامل مع الأحداث على الأرض.
تلك الأحداث التي بدأت احتجاجاً على خدمات وزارة القوى العاملة المقدمة للعاطلين عن العمل، والتي توسعت لاحقا إلى ما عرفه الجميع. كان يمكن لمراقب الوضع إدراك الدلالات الكبيرة للأحداث. لجأ الكثير لتصويب فعل المحتجين على أفعال الحكومة، أو العكس. بينما لم يكن قضية ما حدث هو معرفة المصيب أو المخطيء، أو استيضاح أين يقف الحق. فهذه الأحكام هي بسيطة وسهلة، فهي تلقي اللوم على طرف دون طرف، في حين أن الأمور أكثر تعقيداً من ذلك.
اتضح منذ اليوم الأول للاعتصامات أنها اعتصامات شبابية غير مؤطرة سياسياً. اعتصامات ضد البطالة، ولتحسين جودة حياة الأفراد، ولتحسين جودة الخدمات الحكومية، وللفت انتباه السلطان لسوء الأوضاع على الأرض. كان طليعة الاعتصام شباب أكملوا تعليمهم الثانوي، وبعضهم أنهى تعليماً جامعياً دون التحاقه بفرص عمل تمنح صاحبها حياة كريمة.
لم تكتفي تلك الشريحة المعتصمة بتقديم مطالبها للجهات المسؤولة كما كان يحدث في الماضي. فقد تغير الوضع على الأرض -لأسباب متعددة-. توقف الشباب عن كونهم فقط أعداداً في سجلات الحكومة. إنهم الآن "قوة فاعلة" على الأرض، قوة تفعل ما يحقق لها مصالحها، وتفاوض مسؤولي الحكومة على ذلك. قوة جديدة دخلت على مسرح الأحداث لتحدث خللاً في التوازنات القائمة. لكن هل انتبهت "الحكومة" بسرعة للتحول الكبير في القوى؟
الإجابة هي لا بكل أسف. ممثلو الحكومة في صُحار لم يستوعبوا التغير السريع الذي حصل يوم السبت ٢٦ فبراير. كان الاعتقاد السائد أن السلطة الاجتماعية التقليدية لازالت فاعلة. لهذا حاول الوالي والشيوخ والرشداء والأعيان دفع المعتصمين من منطقة الدوار. وتلك المحاولة تستحق تأملاً: كهولٌ بعمائم وعصي وخناجر ينطلقون من تقدير لموقفهم أنه أعلى من المعتصمين الذين كانوا شباباً، والأغلب كان يرتدي ملابس النوم وملتفاً بعمائم لاتستخدم في المناسبات الرسمية.
بعد فشل مساعي الوالي والشيوخ والرشداء والأعيان، كان لابد أن يتم استخدام القوة المباشرة لفض الاعتصام. تم الهجوم على المعتصمين النائمين فجراً، واقتيد العشرات منهم إلى سجن سمائل المركزي كما تردد. ومع طلوع شمس ذلك اليوم كان عمال البلدية يقومون بتنظيف الدوار من مخلفات الاعتصام، وصبغ الجدران الاسمنتية للدوار لإزالة شعارات المعتصمين. من قال أن شيئاً حدث؟ لم يحدث شيئاً في صحار!
كان لابد من الانتظار حتى الحادية عشر صباحاً حتى يتجمع المعتصمون مرة أخرى، لكن هذه المرة مع بقية امتداداتهم الاجتماعية. كان الصراع واضحاً جداً بين هذه القوة الناشئة، وبين قوة ثقافة الوضع الراهن. ما الذي حصل؟ هذا ما حصل:
كانت تلك المواجهات تاريخية. الأولى من نوعها في عُمان الحديثة، فمهدت لمرحلة سياسية جديدة بعد توجه السلطان قابوس لإصلاح دستوري، وتحسين مخصصات الضمان الاجتماعي للشرائح الفقيرة والعاطلة عن العمل. تلك التحسينات جاءت مختلفة عن الزيادات الهامشية التي أقرت قبل سنوات قليلة. تم أيضًا إقرار تشكيلة حكومية جديدة شهدت التخلص من مراكز القوى السابقة، التي كانت محل انتقاد واسع من العمانيين.
بيد أن الأثر الأكبر لأحداث صحار -في تقديري- هو التغيير الثقافي الذي نتج عنه. تغير في التصور العام للعلاقة بين المسؤول والمواطن، بين الدولة والمواطن. انتشرت رقعة الاعتصامات في مختلف ولايات السلطنة (البريمي، صور، صلالة، لوى ..إلخ)، ومختلف مؤسساتها (الجامعة ومؤسسات التعليم العالي، البنوك، الإعلام ..إلخ). اعترفت الدولة بشرعية الاعتصامات وشرعية التعبير عن الرأي -معللة بأن دستور الدولة يكفله- تحت حكم الأمر الواقع، حينما فشلت في فض اعتصام صحار بالقوة في اليوم الأول بعد خلو الدولة الحديثة طيلة الأربعين سنة من اعتصامات أو احتجاجات موجهة ضد السياسات الحكومية.
ومن مفارقات الأمور -التي كنت شاهداً عليها- أن التغيير الثقافي يتسلل ببطء إلى بعض المواقع ويكون واضحاً في مواقع أخرى. أديتُ صلاة الجمعة، الجمعة الأولى بعد انطلاق الاحتجاجات، في أحد المساجد بِصُحار. لم تتناول الخطبة أحداث الولاية، بل فضل الخطيب استخدام كُتيب خطب الجمعة. لكن الخطيب دعا في نهاية الخطبة للمطالبين بالحقوق، ودعا على الظلمة ومنتهكي الدماء. في ذات الوقت كانت هناك خطبة جمعة مختلفة تماماً في دوار صحار. كانت -ربما- أول خطبة تتناول الشأن العام لم تراقب مسبقاً. كانت على قدر الحدث، وكان الحضور على قدر الحدث أيضًا.
لقد بدأت عجلة التغيير في عمان، وقد تغيرت كذلك تصورات كثيرة في الثقافة العامة. لكن إلى أين يقودنا التغيير؟ وما هو المستقبل؟ لا توجد ضمانة مسبقة لمستقبل أفضل. أقتبس هنا لحسين العبري: "أقول أن كل شيء قادم هو بالضرورة الفلسفية والنفسية سيء. بيد أن القادم السيئ الذي أصنعه خير من القادم السيئ الذي يُصنَع لي".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق