عندما قُتل كليبُ وائل، جاءت وفود ربيعة لسالم الزير تسأله أن يحدد دية مقابل دم أخيه. قال لهم اسألوا اليمامة ابنته. قالت: أريدُ كليبَ حياً!
أستذكرُ حديثاً متلفزاً للسلطان قابوس -سلطان عمان- يحض المواطنين فيه على العمل المتواصل بجد وإخلاص وإتقان، واستشهد الرجلُ الحكيم بحديث من الأثر جاء عن الرسول محمد حضّ فيه تابعيه أن يغرسوا الفسيلة حتى ولو سمعوا صيحة القيامة.
أكتبُ هذه النافذة اليوم والخجلُ يملأني بشدة كبيرة. كان هناك مواطن عماني (ربما سيتمنى أنه لم يكن كذلك) اسمه أحمد بن سعيد الهاشمي وقد رزقه اللهُ بمولود كما يرزق أغلب الناس في سلطنة عمان. إلاّ أن هذا المولود عانى منذ أن خلقه اللهُ تشوهاً خلقياً. وُلدَ الطفل ماجد في مستشفى صور، واكتشفَ مرضهُ الوراثي في ذلك المستشفى، إلاّ أنه وللأسف الشديد فإن مستشفى صور المرجعي لا يملك إمكانية علاج الطفل. لهذا لزمَ تحويل الطفل لمستشفىً تخصصي أكبر، وكانَ المثالُ هنا المستشفى السلطاني.
إذن دعونا نسترجعُ الأحداث مجدداً. خلقَ اللهُ طفلاً، وصادف أن سماهُ أبوه "ماجد". وكانت المصادفة الأخرى أن هذا الوليد أصابه تشوه خلقي نتيجة لمرض وراثي. المرضُ قاتل إن لم يسعفه تدخل طبي سريع ومباشر. لا بد أن يتحرك الأطباء عاجلاً، فهذه رسالتهم الإنسانية. لقد تحركوا، وشملت تحركاتهم اتصالات بالمستشفى المذكور الذي قال للمريض أننا لا نملكُ سريراً، ولهذا لا نستطيعُ استقبال هذه الحالة.
وكي لا أطنب في الموضوع، توفي الطفل "ماجد". لقد مات. أي أن الله اختاره. أي أنه دخل الجنة (ربما يقول قائل قد نجحت مؤسسات وزارة الصحة بإرسال طفل للجنة، فلنفرح!).
هل تعرفون ما الفارقُ بهذه القضية؟!
الفارقُ أنها المرة الأولى التي أرى فيها مواطناً يطلبُ على الملأ "واسطة". لقد طُرح موضوع في "سبلة عمان" يطلب من القراء الذين يملكون "واسطة" في مؤسسات وزارة الصحة أن يتحركوا لتوفير سرير للمريض قبل أن تسوء الأمور. إنها المرة الأولى التي أرى فيها طلباً عاماً للحصول على خدمة حكومية تعتبرُ حقاً أصيلاً لكل مواطن (وحتى مقيم، كلهم يصنفون ب"إنسان" وكل إنسان له حقوق).
دعونا نعود لحديث الفسيلة. هل تعتقدون أن وزارة الصحة عرقلت فعلاً نقل الطفل المريض للمستشفى السلطاني؟ هل تعتقدون أن الأمر كان فقط عوائق بيروقراطية ورعونة من بعض المسؤولين الذين أساؤوا تقدير الأمور؟ هل هي حادثة تشرفُ وزارة الصحة؟
لا أدري حقيقة إجابة واحدة على التساؤلات السابقة. لكنني أدرك حقيقة واحدة، وأراها بوضوح تام: إن ما حدث هو جريمة أخلاقية، وإنسانية كبيرة. إنها عدم اهتمام بإنسان يحتضر. لا أظن حقيقة أن ما حدث ينم عن استيعاب من قبل وزارة الصحة بحديث السلطان عن الفسيلة والتحريض على الزراعة (إن حاكينا الخطاب الإعلامي بعمان). ولا أظن أيضًا أن السلطان قابوس سعيد بما حصل (إن افترضنا صحة المعلومات الواردة هنا).
ماجد الهاشمي مات، وهو لم يدركْ بعدُ أنهُ يحملُ اسماً. ولم يدرك والديه. بل إن الأب لم يتحسس ويحضن طفله بعدُ، فقد عاجله الموتُ. ولو كنتُ مكان الأب لسألتُ المستشفى إن كان سيملك سريراً للولد قبل ولادته تحسباً للظروف!
ما حدث شبيه بما قاله درويش في جريمة قتل الدرة..
محمّد،
يعشّش في حضن والده
طائراً خائفاً من جحيم السماء:
احمني يا أبي من الطيران إلى فوق!
إنّ جناحي صغيرٌ على الريح…
والضوء أسود
محمّد،
يريد الرجوع إلى البيت،
من دون درّاجة…
أو قميصٍ جديد
يريد الذهاب إلى المقعد المدرسيّ…
إلى دفتر الصرف والنحو:
خذني إلى بيتنا، يا أبي،
كي أعدّ دروسي
وأكمل عمري رويداً رويداً…
على شاطئ البحر،
تحت النخيل ولا شيء أبعد،
لا شيء أبعد
اضغط هنا للمزيد
أيضًا هنا