الأربعاء، 20 مايو 2009

قراءة في فكر علي الوردي 2-3

قراءة في فكر علي الوردي 2-3
تستكمل شرفات نشر هذه السلسلة من عرض أفكار وبعض كتب علي الوردي. الجزء الأول هنا. والسلسلة من كتابة صالح البلوشي، وحمد سنان الغيثي. ما أود قوله هنا: أن بحوث علي الوردي في التراث الإسلامي لا تزال محافظة على جدتها وثوريتها. كان همنا إرسال رسالة للناس حول هذه الآراء، أي تقريبهم منها كي ينظروا بمنظور آخر للأحداث في هذا الزمن الطائفي.

يعد كتاب وعاظ السلاطين من أهم الكتب التي قام الدكتور علي الوردي بتأليفها، وقد صاحبت نشره ضجة كبيرة في العراق وصلت لحد التكفير والتهديد بالقتل، وصدور خمسة كتب للرد عليه، كان أشهرها كتاب "مع الدكتور علي الوردي في كتابه وعاظ السلاطين" للعالم الشيعي الشهير مرتضى العسكري الذي ما زال يطبع إلى اليوم. قدم الوردي كتابه إلى الذين ظلوا طوال التاريخ الإسلامي يمطرون الناس بمواعظهم وخطبهم الرنانة، فلم ينتفعوا منها بشىء لأنهم ـ حسب الوردي ـ دأبوا على وعظ المظلومين وتركوا الظالمين. وقد اتخذ الطغاة الوعاظ آلات في أيديهم لينذروا الناس بعذاب الآخرة وينسوهم بذلك ما حل بهم في هذه الدنيا من عذاب مقيم.

وهذا الكتاب هو كغيره من كتب الوردي من حيث نقد المنطق القديم والقول بأن التاريخ لا يسير على هذا المنطق وإنما على أساس الطبيعة الإنسانية وما تحمله من نزعات وميول لا يمكن تغييرها بسرعة. شدد الوردي أيضًا على أن الأخلاق لا تكتسب من خلال الوعظ الأفلاطوني لأنها من نتاج الظروف الاجتماعية.

موضوعات الكتاب

يختلف كتاب وعاظ السلاطين تماماً عن الكتب العديدة التي ألفت للبحث في التاريخ الإسلامي، فهو ليس ككتاب "محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية" للشيخ محمد الخضري، أو سلسلة أحمد أمين الشهيرة في التاريخ الإسلامي، إنما هو بحث في تاريخ الفكر الإسلامي على ضوء المنطق الحديث وهو ـ حسب اطلاعنا ـ الكتاب الوحيد في موضوعه الذي يعالج الكثير من موضوعات الفكر الإسلامي مثل: السلف الصالح، وشخصية عبد الله بن سبأ الأسطورية، وعلاقة قريش بالشعر، وشخصية عمار بن ياسر ودوره في أحداث الفتنة التي وقعت في صدر الإسلام، والعلاقة بين السنة والشيعة وغيرها من الموضوعات المهمة والتي يستحق كل واحد منها وفقة فاحصة.
هناك أسباب عديدة دفعت الدكتور الوردي إلى تأليف هذا الكتاب منها موقفه المعروف من المنطق القديم الذي واصل نقده الشديد له في هذا الكتاب عبر نقده للأساليب الوعظية المتبعة اليوم. فالوردي يعتقد أن الطبيعة البشرية لا يمكن إصلاحها بالوعظ المجرد وحده، لأنها كغيرها من ظواهر الكون تجري حسب نواميس معينة ولا يمكن التأثير في شيء قبل دراسة ما جبل عليه ذلك الشىء من صفات أصيلة.

حول الوعظ الإفلاطوني


يخصص الدكتور الوردي الفصول الأولى من كتابه هذا لمناقشة ظاهرة الوعظ الديني التي استفحلت في التاريخ والحاضر الإسلامي. يعتقد الوردي بأن الوعظ المجرد يكون ذا ضرر بليغ في تكوين الشخصية البشرية إذا كان ينشد أهدافاً معاكسة لقيم العرف الاجتماعي. فعندما يذهب المسلم إلى المسجد أو المدرسة يسمع هناك وعظاً أفلاطونياً يحضه على ترك الدنيا والإقبال على الآخرة، فتبدأ أزمة نفسية بالتكون فيه، فهو كمثل حال جميع البشر يحب الدنيا وما فيها من ملذات ومغريات ولكن عندما يسمع كلام الواعظ يأمره بترك هذه الدنيا الخلابة يمسي حائرًا فضميره ووجدانه الداخلي يأمره بإطاعة الواعظ، لكن نفسه تجذبه من الناحية الأخرى نحو الدنيا جذباً لا خلاص منه، فهو إذن واقع بين حجري الرحى: لا يستطيع أن يترك الدنيا، ولامخالفة كلام الواعظ لأن ضميره يدفعه لتأنيبه خاصة أنه وُعد بالجنة التي سوف تكون من نصيب من يترك الدنيا للآخرة.


والوعظ ليس المحدد الوحيد لسلوك الفرد، فالعرف الاجتماعي يسيطر على العقل الباطن للإنسان وإن كان معاكساً للوعظ. يقول الدكتور علي الوردي: "من خصائص الطبيعة البشرية أنها شديدة التأثر بما يوحي العرف الاجتماعي إليها من قيم واعتبارات، فالإنسان يود أن يظهر بين الناس بالمظهر الذي يروق في أعينهم، فإذا احترم الناس صفة معينة ترى الفرد يحاول شتى المحاولات للاتصاف بتلك الصفة وللتباهي بها والتنافس عليها".

شر المجتمعات ـ حسب الوردي ـ هو ذلك المجتمع الذي يحترم طريقاً معيناً في الحياة في الوقت الذي ينصح الواعظون فيه باتباع طريق معاكس له. في هذا المجتمع ذي الوجهين ينمو الصراع النفسي لدى بعض أفراده ويأخذ بتلابيبهم وقد يلجأ كثير منهم الى حياة الانعزال أو الرهبنة. إنهم لا يستطيعون أن يوفقوا بين تلك الدوافع المتناقضة، ولذا نراهم طلقوا الدنيا وذهبوا إلى صوامعهم أو أبراجهم العاجية يجترون مثلهم العليا اجتراراً. أما الباقون من الناس ممن لا يستطيعون الاعتزال فنراهم يلجأون في سبيل التوفيق بين مبادىء الوعظ وقيم المجتمع إلى حيلة أخرى هي ما نسميها بازدواج الشخصية.

ازدواج الشخصية

المطالع لتاريخ وسيرة بعض الملوك والخلفاء يجد تناقضاً شديدًا يحيط في الكثير من جوانب حياتهم المختلفة. ينطبق عليهم وصف الوعظ الأفلاطوني فتجد أحدهم مثلاً يحيط نفسه بالحكماء والوعاظ ورجال الدين لوعظه وتعليمه السلوك الصحيح في الحكم وإصلاح الرعية، ثم تجده باكياً عند سماع الموعظة، أو متألماً بقوة عند علمه بوجود مظلومين في مملكته. لكنه في ذات الوقت يقتل ويفتك المعارضين له بأبشع الأشكال. إنه بهذا المعنى مزدوج الشخصية، وازدواج الشخصية هذا يختلف من بعض الوجوه عن النفاق، فالمنافق مزدوج في قوله أو فعله ولكنه يعرف أنه مزدوج إذ يتقصد هذا الازدواج لكي يتزلف إلى شخص أو يطلب منه شيئاً.

أما مزدوج الشخصية فهو لا يدري بازدواجه، ولا يريد أن يدري، وله في الواقع وجهان: يداري الواعظين بأحدهما، ويداري بقية الناس بالآخر. وإذا ذكر بهذا أنكر وربما أرعد وزمجر. وللمثال يذكر الوردي قصة أهل الكوفة مع الحسين بن علي: فقد خرج الحسين بن علي من مكة في طريقه إلى الكوفة بعد أن طلبه أهلها للبيعة وخلع يزيد بن معاوية، فلقي في طريقه الشاعر المعروف الفرزدق فسأله عن أحوال الكوفه وأهلها وهو يتوقع أن يسمع أخبارا طيبة عنها. لكن الفرزدق أجاب بكل حزن: إن قلوب أهل الكوفة معك، ولكن سيوفهم عليك.
برز الصراع النفسي وازدواجية الشخصية بقوة في تلك الفترة الزمنية. فأهل الكوفة الذين طلبوا من الحسين القدوم إليهم لإنقاذهم من سلطة بني أمية هم أنفسهم الذين خرجوا لقتاله. يقول الدكتور علي الوردي: "وهذه الأزمة تنتاب النفوس عادة في المراحل التاريخية الحرجة التي يصطرع فيها عاملان متناقضان: عامل المباديء العليا من جهة، وعامل الإغراء والطموح من الجهة الأخرى".

لاحظ الوردي أن العرب يفوقون غيرهم من الشعوب في ازدواج الشخصية، والسبب في ذلك ـ حسب رأيه ـ هو وقوعهم تحت تأثير عاملين متناقضين من القيم: قيم البداوة وقيم الحضارة. فالأولى تحرض على الكبرياء وحب الرئاسة والتفاخر بالأنساب، في حين تؤكد القيم الإسلامية على التقوى والعدالة والخضوع لدين الله. لذلك أصبح العربي بدويا في عقله الباطن، مسلما في عقله الظاهر فهو يمجد الفخر والقوة بينما في أفعاله يعظ الناس بتقوى الله وبالمساواة بين الناس.


السلف الصالح

بحث الدكتور علي الوردي في كتابه مسألة السلف الصالح وكيف يجب علينا أن نتعامل مع هذه المسألة. يقول إن الواعظين يريدون أن يرجعوا بنا إلى صدر الإسلام وهم يشيرون دائماً إلى المسلمين الأولين قائلين: انظروا إليهم، لقد اتبعوا الحق فنجحوا، وليس لنا إلا أن نتبع طريقهم بحذافيره لكي ننال النجاح مثلهم.

ينتقد الدكتور الوردي هذا المنطق لأن المسلمين في نظره نجحوا ثم فشلوا وليس لنا إلا أن ندرس عبرة النجاح والفشل في تاريخهم لكي نتعظ بها. يصف الوردي نظرة الوعاظ بأنها نفس نظرة المنطق القديم والتصنيف الثنائي الذي يقول إن الحسن حسن على الدوام والقبيح يبقى قبيحاً إلى يوم القيامة، والمنطق الاجتماعي الحديث يستخف بهذا الرأي فالحسن في نظر المنطق الحديث لا يبقى حسناً إلى الأبد، فهو في حركة وتغير مستمر.

يفصّل الوردي حديثه أن الوعاظ يريدون منا أن ندرس الإسلام ونبارك حركته الأولى باعتبار أنها الحركة الخالدة التي لا تحتاج إلى تطوير، وهذا الرأي ـ حسب الوردي ـ لا يرضاه الإسلام نفسه ولا نبي الإسلام. فقد جاء محمد (ص) للناس بخطوة اجتماعية كبرى، وهو يعلم أن التاريخ يسير بخطوات متتابعة فلا بد إذن أن تعقب خطوته خطوات أخرى على توالي الأجيال من غير توقف.

وهل كان السلف الصالحُ صالحاً حقاً؟ يتتبع علي الوردي نشوء الطبقة المترفة في المدينة، ثم انتشارها في بقية الأمصار الإسلامية. لقد عادت الطبقية الاجتماعية والترف المالي بأغطية إسلامية إلى الظهور مع توالي توارد الغنائم والجواري والعبيد إلى المدينة في عهد عمر وعثمان، وبذلك ذبلت القيم الاجتماعية التي نادى بها محمد(ص). ولعل عمر بن الخطاب أدرك ذلك فاتخذ تدابير تحد من انقسام المجتمع الإسلامي لكن خنجر أبي لؤلؤة حال دون إتمام مشروعه.


في عهد عثمان انقسم السلف الصالح، فوقف الأغنياء منهم مع عثمان، أما الفقراء من أمثال أبي ذر وعمار وغيرهم فقد كانوا يؤلبون الناس ضد المترفين الذين استفادوا من غنائم الفتوحات. وقد أدى هذا لنشوء الفتنة، ونشأت معها أسطورة عبدالله بن سبأ.

عبد الله بن سبأ

من المسائل التي بحثها الوردي في كتابه شخصية عبد الله بن سبأ التاريخية. هذه الشخصية مثيرة للجدل، فقد حمّلها جل المؤرخين المسلمين مسؤولية الفتن التي ظهرت في بداية الإسلام، فابن سبأ ـ في نظرهم ـ حرك الصحابي أبا ذر للدعوة بإعادة تقسيم الأموال في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وهو الذي كان على رأس من ألب الأمصار الاسلامية للثورة على عثمان، وهو الذي جاء بفكرة الوصية والإمامة التي كانت أساس ظهور بعض الفرق الإسلامية. بهذا كان ابن سبأ وفقاً لهؤلاء المؤرخين ومن سار على ركبهم من أرباب الفرق منبع كل الشرور والمصائب والرزايا في بداية الإسلام إلى يومنا هذا.

إذن شخصية ابن سبأ ـ كما يقول الوردي ـ خارقة جداً، ولا بد أنه كان يملك قوة نفسية استطاع أن يؤثر بها في جماهير المسلمين آنذاك، وقد كان هذا التأثير بليغاً كفاية ليثير الثورات ويمنع الصلح في معركة الجمل ويبث في الإسلام أفكارًا غريبة تبقى بعده إلى يومنا هذا.
فيما تتجه معظم المرويات التاريخية لتثبيت يد ابن سبأ في أحداث الفتنة، نجد بعض الباحثين المحدثين يعتبرون هذه الشخصية أسطورية محضة، ومن هؤلاء طه حسين، مرتضى العسكري، عبدالعزيز الهلابي وغيرهم. لكن ما موقف صاحبنا علي الوردي من هذا؟
يعقب الوردي على هذه الروايات: "يخيل لي أن ابن سبأ الذي ينسب إليه تحريك الثورة كان وهماً من الأوهام كما قال الدكتور طه حسين، ويبدو أن هذه الشخصية العجيبة اخترعت اختراعاً، وقد اخترعها أولئك الأغنياء الذين كانت الثورة موجهة ضدهم. وهذا هو شأن الطبقات المترفة في كل مرحلة من مراحل التاريخ إزاء من يثور عليهم فكل انتفاضة اجتماعية يعزوها أعداؤها إلى تأثير أجنبي".
لكن علي الوردي لا يكتفي بذلك، بل يقرر أن أبا ذر الغفاري وعمار بن ياسر كان لهما الدور الأكبر في تأليب مسلمي الأمصار ضد الخليفة، لعدم التساوي في تقسيم الفيء. وبذلك يدخل أبو ذر وعمار ضمن جماعة السبئيين!

قريش

تتبع الوردي قصة قريش منذ بدء الإسلام ليس تتبعاً لقبيلة عربية فقط، بل لاندماج الدولة بأرستقراطيتها مع الدين، وهذا الدين الذي كان دين المستضعفين والمظلومين ثم تحوّل مساره فصار دولة فاتحة بها ملوك وأمراء ورعية وعبيد. رفضت قريش الإسلام لا لأنه ديانة توحدية، بل لأنها اعتقدت أنه يهدد نظامهما الاقتصادي ومكانتها الاجتماعية بين القبائل. فالمسلمون كانوا يصلون تجاه بيت المقدس، وفي هذا انحسار لدور مكة إن انتشر الإسلام.

وبعد فتح مكة تم تحطيم الأصنام على يد الرسول، ويستغرب الوردي كيف لم يتأثر القرشيون من منظر الأصنام المحطمة التي كانوا يعبدونها طيلة حياتهم. كانوا يحاربون محمداً ثلاثا وعشرين سنة دفاعاً عن معتقدهم كما كانوا يقولون وإذا بهم يستكينون أمام الواقع الجديد. يعتقد الوردي أن سادة قريش قد دخلوا الإسلام ليس إيماناً به، بل نفاقاً، واستغلالاً للوضع الجديد. وقد امتلأت أيديهم بالغنائم الكثيرة التي ألف بها الرسول قلوبهم بعد غزوة حنين، لكن موت محمد (ص) فتح أمامهم آفاقاً أخرى. حدثت مماحكات بين أبي بكر وعمر وسادة قريش أثناء خلافة الاثنين. وقد قارن عمر بين علي وعثمان، فقال: لو ولّوها الأجلح ـ علي ـ لحملهم على الجادة، ولو وليها عثمان لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ولو فعلها لقتلوه". وقد مات عثمان حقاً في أتون الفتنة التي مزقت الإسلام إلى فرق، ويتهم الوردي معاوية بن أبي سفيان ومروان بن الحكم للسعي في مقتل عثمان ومنع الصلح بين المتخاصمين.

يؤكد الوردي في دراسته أن تتبعه للتاريخ الإسلامي ليس لأجل التسلية، بل هو دراسة للقيم والمباديء التي أدت لنشوء الصراع المسلح بين جماعة المسلمين. رأى الوردي أن قريشاً لم تنزل من كبريائها، بل تربصت بالإسلام حتى استغلته وأدارته لصالحها بتوليّ بني أمية الحكم. والإسلام الشوريُ الذي دعا إليه محمد في ناحيته السياسية قد صار ملكاً وراثياً لايختلف عما كان عليه قيصر وكسرى.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق