الأربعاء، 13 مايو 2009

قراءة في فكر الوردي «1- 2»

قراءة في فكر الوردي «1- 2»


هذا المقال ينُشر في عدد شرفات اليوم، وهو لصالح البلوشي، وحمد الغيثي.

في هذه المقالة والمقالة التالية سنحاول تسليط الضوء على الدكتور علي الوردي وأهم القضايا الفكرية والاجتماعية التي شغلته. سنركز بشكل خاص على الآراء التي نشرها في كتبه: منطق ابن خلدون، ومهزلة العقل البشري، ووعاظ السلاطين.
الدكتور علي الوردي باحث اجتماعي عراقي ولد بكاظمية بغداد سنة 1913 حيث مرقد الإمام موسى الكاظم. وتوفي في الثالث عشر من الشهر السابع تموز سنة 1995. نشأ الوردي فقيراً عصامياً مثابراً يعمل ويدرس ويجتهد، وكان إلى جانب ذلك مولعاً بالقراءة إلى حد النهم بها حتى أنه طرد من محل كان يعمل به بسبب القراءة أثناء العمل.

مشواره الأكاديمي


أنهى الوردي شهادة البكالوريا سنة 1936 بحصوله على المركز الأول على مستوى العراق، ولذلك أوفدته الحكومة العراقية للدراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت. أكمل البكالوريوس عام 1943 ثم سافر للدراسة في جامعة تكساس الأمريكية لينهي الماجستير1948، والدكتوراة عام 1950 في علم الاجتماع، وقد كانت أطروحته للدكتوراة حول نظرية ابن خلدون الاجتماعية.

عاد إلى العراق فعُيّن مدرساً في كلية الآداب بجامعة بغداد، ثم أصبح أستاذاً مساعداً عام 1953، ثم تمت ترقيته إلى مرتبة الأستاذية في علم الاجتماع. أحال نفسه إلى التقاعد سنة 1970 ومنحته جامعة بغداد لقب "أستاذ متمرس" وهو أول لقب علمي يحصل عليه أستاذ جامعي في العراق. منذ ذلك التاريخ انكب الوردي على عمله الموسوعي الذي وصفه بعمل العمر "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" الذي لم يستطع تكملته بسبب الظروف السياسية التي مرت بالعراق بعد ذلك، فآثر الوردي السلامة.

فكره


ركز الوردي كتاباته على قضايا شائكة في الثقافة العربية، كي يعرضها من منظور آخر، غير تقليدي. تميّز الوردي بموضوعيته العلمية التي ساعدته كثيراً في تجاوز الأطر الفكرية التقليدية في قراءة الماضي والحاضر. ولأجل هذا دعا الوردي إلى التحلي بأسس المنطق الحديث في التفكير والتخلي عن "المنطق القديم أو المنطق الأرسطي" الذي حمله المسؤولية الكبرى فيما آل إليه العقل العربي في مجال الدين، والأخلاق، والسياسة. قدم الوردي قراءات جديدة للأخلاق وتطورها في المجتمعات العربية، وكذلك دعا لتحرر المرأة في مجتمعات تشهد تحولات جذرية. ولأن الوردي نشأ في مجتمع يعاني من ثنائية مذهبية (سنة - شيعة) فقد نبش الرجل التاريخ الإسلامي مفتشاً في معضلاته عن قيم غيبها المتخاصمون.


المتجادلون حول الوردي


المنهج الحر في التفكير والبحث عند علي الوردي أثار حنق الجميع عليه. اتهمه القوميون العرب بالقطرية بعد صدور كتابه الفذ "شخصية الفرد العراقي"، لأنهم رأوا فيه تناقضًا مع أطروحتهم التي تقول إن الشخصية العربية متشابهة في كل البلدان العربية. كذلك هاجمه الشيوعيون لعدم اعتماده المنهج المادي التاريخي في دراساته، ولتوجيه انتقادات اجتماعية في كتاب "مهزلة العقل البشري" لمنهج كارل ماركس. انتقده كذلك علماء الشيعة بعد صدور كتابه "وعاظ السلاطين" وأصدروا عدة كتب للرد عليه لأنه دعا إلى تحرير المذهب الشيعي من بعض الظواهر والطقوس التي يرى الوردي أنها دخيلة على الفكر الشيعي وغير منسجمة مع تعاليم أئمة أهل البيت. أما علماء أهل السنة فقد أخذوا على الكتاب المذكور أنه ينتقد الخلفاء السنة من الأمويين والعباسيين ولذلك اتهموه بالطائفية. علماء اللغة العربية شاركوا في الهجوم على الوردي بعد صدور كتابه "أسطورة الأدب الرفيع" الذي دعا فيه إلى تحرير اللغة العربية من الأقيسة المنطقية في النحو والصرف لتصبح اللغة أداة أفضل للفهم والتواصل، وفيه انتقد أيضاً الأدباء على تمسكهم بالكلاسيكيات الأدبية القديمة وعدم اهتمامهم بما يحدث في العصر الحديث من انقلاب فكري واجتماعي كبير.


الوردي وعلم الاجتماع


يقول الوردي: إنه اتجه إلى تخصص علم الاجتماع بسبب رغبته الشديدة في فهم طبيعة المجتمع العراقي. لذا قام بتأليف موسوعته "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث". بحث الوردي فيها الكثير من الظواهر الاجتماعية الموجودة في العراق، ورصد تطوراتها وجذورها التي تمتد إلى العهدين العثماني والملكي. ضم الكتاب - أيضًا- دراسات مفصلة للكثير من الشخصيات والأحداث التاريخية التي كانت لها صلة وثيقة بما كان يحدث في العراق مثل الحروب العثمانية الصفوية، وتأثيرها الاجتماعي والطائفي على مكونات الشعب العراقي المختلفة بأطيافه المتنوعة ومذاهبه المتعددة، وكذلك عن الثورة العربية التي انطلقت من الحجاز، وظهور فرقة البابية في إيران وانتقال تأثيرها إلى العراق، والصراع الطائفي بين السنة والشيعة والذي حذر علي الوردي من انفجاره الكبير بعد سقوط الاستبداد السياسي في العراق، وهذا ما حدث فعلاً بعد الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003.

يعتبر كتاب "شخصية الفرد العراقي" الذي ألفه الوردي سنة 1950 واحداً من أشهر كتبه التي أثارت نقاشاً حاداً وجدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية العراقية آنذاك. بحث فيه الوردي بشكل خاص ظاهرة ازدواج الشخصية في المجتمع العراقي، واعتبرها ظاهرة اجتماعية وليست نفسية، وأرجعها لوقوع المجتمع العراقي تحت تأثير نسقين من القيم الاجتماعية المتناقضة هما قيم البداوة وقيم الحضارة بحيث يضطر بعض الأفراد للاندفاع وراء نسق قيمي معين تارة ووراء نسق قيمي آخر تارة أخرى وهو ما يولد الازدواج في الشخصية.

توقفه عن الكتابة


توقف الدكتور علي الوردي عن التأليف بعد رفض السلطات العراقية السماح له بنشر الجزء السابع من موسوعته "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث"عام 1979. وقد أصيب الوردي حينها بالإحباط الشديد بسبب اعتزازه كثيراً بهذا العمل الموسوعي. اتجه الوردي بعدها لكتابة المقالات والردود في الصحف والمجلات العراقية مثل "الثورة" ومجلة "ألف باء" وغيرها. ومما يجدر ذكره أن الوردي منع من السفر إلى خارج العراق بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية صيف 1988، وقد ظل بالعراق إلى أن توفاه الله في الثالث عشر من يوليو 1996.


منطق ابن خلدون


نظن أن علي الوردي مال بشدة إلى براجماتية ابن خلدون، والأسس المنطقية التي أقام عليها مقدمته الشهيرة. ولن نتعجب هذا بعد أن عرفنا أن جزءًا كبيراً من محور رسالة الدكتوراة لعلي الوردي كانت حول ابن خلدون. إن اختيارنا لكتاب "منطق ابن خلدون" كفاتحة لعرض آراء علي الوردي لم يكن عبثياً، فالمبادئ والأسس المنطقية التي احتضنها هذا الكتاب كانت بمثابة الأسلحة الفكرية التي تسلح بها علي الوردي في مشواره الفكري لتحليل بعض الظواهر الاجتماعية في التاريخ والحاضر العربي.


قام علي الوردي في كتاب "منطق ابن خلدون" بتحليل البنية المنطقية التي انتهجها ابن خلدون في تأليف مقدمته، وحاول الإحاطة بالعوامل الواعية واللاوعية التي قادت إلى قيام هذا الفكر. كل الدلائل تشير ـ كما يصف الوردي- إلى أن ابن خلدون قد ثار على الأسس المنطقية التي قام عليها الفكر الإسلامي ـ بشقيه الفلسفي والكلامي ـ والتي استقاها من التراث الإغريقي القديم في صيغته الأرسطوطاليسية. هذه العقلانية الخلدونية تتساوق مع المنطق الحديث ذي الحقيقة النسبية، وهي بطبيعة الحال تتنافر مع المنطق القديم، منطق الحقيقة المطلقة.


في بداية كتابه هذا، أفرد الوردي فصلاً كاملاً لعرض خصائص المنطق القديم وأهم مبادئه، التي سيثور عليها ابن خلدون، ثم سيبدأ تداعيها مع ثورة فرانسيس بيكون على التراث الفلسفي القديم. قبل التوقف مع هذا المنطق يجدر بنا الإشارة إلى أن المنطق الأرسطوطاليسي دخل المنظومة الفكرية الإسلامية بشكل كاسح في عصر المأمون العباسي من خلال ترجمة التراث الإغريقي إلى العربية. وقد استخدمت الفرق والطوائف الإسلامية - السياسية والدينية - أدوات هذا المنطق حتى يومنا هذا لادعاء احتكار الحقيقة المطلقة، وتوفير مناخ خصب للإقصائيين في المجال الديني والسياسي والاجتماعي.


لابد إذن من عرض بسيط لخصائص المنطق الأرسطي؛ لأن الوردي سوف يتحرك ضد هذا الفكر في مسيرته البحثية والإنتاجية، ولأننا – أي كاتبي هذا المقال- سوف نستعرض الآراء الوردية في الجزء الثاني من هذا المقال أيضا.


خصائص المنطق القديم (الأرسطي)


تميز المنطق الأرسطي بخصائص عامة لازمته، وقد أفرد لها الوردي الفصل الأول في كتابه هذا. هناك خاصيتان مهمتان ناقشهما الوردي:


1. صورية المنطق: ميز المنطق الأرسطي الأشياء إلى صورة ومادة، ونعت المادة "بالهيولى". ركز المنطق اهتمامه بصورة الشيء وشكله ليهمل محتواه ومادته وواقعه. لهذا نرى الأرسطيين ومنهم الفقهاء المسلمون يهتمون بالصورة المتخيلة للشيء ليهملوا الواقع والفائدة الاجتماعية المتأتية منه، وللمثال: تكلموا قديماً عما ينبغي أن يكون في "الخليفة" أو "الإمام" من الصفات الخُلقية والدينية لكن تداول الخلافة على أرض الواقع كان تمام البعد عما سطره الفقهاء في كتبهم. قارئ التراث الإسلامي يرى خصوبة تأليفية امتازت بها جميع المذاهب في رسم الصورة المثلى للنظام السياسي ولرئيسه، لكنهم قلما كتبوا حول النظام الذي يظلهم. ضرب الوردي مثالاً آخر عن صورية الفقه الإسلامي، فهذا الفقه حرّم النظام المالي المعاصر بتحريمه للبنوك والتعامل معها بحجة أنها بنوك ربوية. لقد قام الفقهاء بربط "صورة" ربا الجاهلية ـ المنهي عنه في الإسلام- بصورة البنوك التي تعمل على تدوير المدخرات المالية بين الزبائن، فهذه البنوك "تأخذ المال ممن لا يستطيعون استثماره وتعطيه إلى القادرين على استثماره بفائدة بسيطة". يعلق الوردي على أصحاب الذهنية التحريمية بأنه "يكفيهم في حرمة العمل أن يكون في الصورة المنهي عنها، وليس المهم بعد ذلك أن يكون من الناحية العملية عملاً ضاراً أو نافعاً".


صورية المنطق نلاحظها بتجلٍ آخر عند الفقهاء، نراها في تعاملهم مع إشكالية الموسيقى في هذا العصر. إنهم يحرمون الموسيقى والغناء؛ لأن السلف حرمها "بالصورة" التي هي عليها الآن. لقد حرم السلف ضرب الأوتار وغناء القيان. لكن فقهاءنا اليوم يبيحون الأناشيد والتواشيح الدينية التي تحتوي على الدفوف والتأثيرات الصوتية البشرية والطبيعية؛ لأن هؤلاء المنشدين لا يستخدمون الفتيات الحسان ولا الآلات الوترية والمزامير رغم الإيقاع الموسيقي الناتج عن هذه التأثيرات الصوتية "الطبيعية".


2. استنباطية المنطق: تميز هذا المنطق أيضًا بأنه استنباطي، فهو يبحث عن كليات عقلية عامة كي يستنبط منها النتائج الخاصة. وعلى هذا يقوم القياس الذي يتألف عادة من: مقدمة كبرى، ومقدمة صغرى، ونتيجة. يضرب الوردي مثلاً لهذا:

- كل إنسان فان (مقدمة كبرى)
- سقراط إنسان (مقدمة صغرى)
- إذن سقراط فان (نتيجة)

تنشأ إشكاليات عديدة بسبب استخدام هذا المنهج، أولها أن المقدمة الكبرى التي تعد حقيقة بديهية في عرف أهل هذا المنطق هي ليست كذلك في الحقيقة، فالعلم الحديث يرفع راية النسبية وقابلية البحث في جميع النواحي. الإشكالية الأخرى هي أن هؤلاء استخدموا الآيات والأحاديث كمقدمات لأقيستهم المنطقية، وهي ـ بطبيعة الحال- قابلة لإعطاء النتائج المبتغاة من خلال المقدمة الصغرى. لذلك نرى الفرق والمذاهب الإسلامية تتجادل منذ قرون عديدة في ذات المسائل وبالاعتماد على نفس الآيات والأحاديث دون إقناع أحدهم الآخر، فكل فريق يخرج بنتيجة مغايرة عن الآخر حتى وإن استخدموا الآيات والأحاديث الدينية ذاتها. يضرب الوردي مثلاً لهذه الجدليات بحادثة استشهاد الحسين بن علي، فبعض الفرق الإسلامية قالت: إن الحسين كان شهيداً ومحقاً بخروجه على يزيد، وقالت فرق أخرى إنه مخطئ حاول تفريق الأمة ووجب قتله.


مبادئ المنطق الأرسطي


إضافة لتلك الخصائص، عدد الوردي مبادئ قام عليها المنطق الأرسطي منها: مبدأ العقلانية؛ فقد وثق المناطقة في العقل وقدرته المطلقة في الحكم على الأشياء دون الرجوع إلى الحواس. مبدأ السببية؛ اعتقدوا أن لكل سبب مسببا، لكنهم عندما يجهلون السبب ينكرون الواقعة برمتها أو يلجأون إلى تعليق السبب على الله فلا يبحثون عنه! مبدأ الماهية؛ فقالوا إن حقيقة الشيء ثابتة لا تتغيير بمرور الزمان، فالشيء الخيِّر يبقى خيراً، والشرير يظل شريراً، ثم قالوا أيضًا: إن النقيضين لا يجتمعان في الشيء، فالخير مطلق، والشر مطلق ولا يمكن أن يكون المرء ـ مثلاً- خيراً في فعل، وشريراً في فعل آخر. واعتقد المناطقة أيضًا بقانون الوسط المرفوع؛ فلا مجال لدرجة بين الدرجتين، فلا وسط بين القبيح وبين الحسن.


إن المبادئ التي طبعت المنطق الأرسطي جعلته ذهنياً تجريدياً خالصاً لا يتأثر بتغير الظواهر في الطبيعة، ولذلك لم يستطع هذا المنطق استقراء الطبيعة وتفسير ظواهرها وبيان عللها؛ لأن أصحابه تنزهوا عن ذلك بسبب تغيرها المستمر وحركتها الدؤوب، وفي عرف هذا المنطق أن المتغير أقل درجة من الثابت. على النقيض من ذلك نشأت فلسفة العلوم التجريبة الحديثة التي أدركت أن التغير والتطور هو سنة طبيعية.


فلسفة ابن خلدون


المجتمع المثالي نشأ نتيجة للتفكير المثالي الذهني المجرد فهو يفترض الصورة النقية والصحيحة للشيء: الدين الصحيح، والمذهب الحق، والمدينة الفاضلة للفارابي. إن المثاليين لا يتصورون أن الشيء قد يكون: حسناً وقبيحاً، صالحاً وطالحاً في ذات الوقت. بل يعتبرون هذه الوضعية منافية لما أراده الله لعباده إن تكلمنا عن الجانب الديني هنا. ينطبق هذا على نظرة المثاليين للأنبياء والصحابة والمعصومين. يعتقد المثاليون أن هؤلاء منزهون فهم لا يخطئون بل توافقهم الإصابة والتوفيق دائماً. برزت تجليات هذه النظرة في العقائد الصوفية والشيعية التي مجدت الأولياء وأهل البيت، فأضفت على طبيعتهم البشرية طبائع أخرى.


لقد حلل الوردي مقدمة ابن خلدون، واستقرأ الأسس المنطقية التي تقوم عليها، فوجدها تقوم على المشاهدات الحسية والمتغير في تاريخ المجتمعات. لم ينظر ابن خلدون للمعطيات التي أمامه من أعلى السماء، بل نظر إليها من الأرض حيثُ هي، وبذلك ناقض ابن خلدون المنطق الأرسطي المثالي. انقلب ابن خلدون على قانون "الماهية" في الفكر الأرسطي حينما تحدث عن البداوة والحضر، فقد ميّز في كل منهما صفات حسنة وسيئة، ولم ينظر إليهما بشكل مطلق، أبيض أم أسود.


الأخلاق عند ابن خلدون


آمن ابن خلدون، وآمن الوردي معه أن الظروف الاجتماعية والبيئية تشكل الأخلاق. ولهذا فمطالبة الناس باتخاذ أنماط معينة من الأخلاق هو ضرب من العبث إن كانت البيئة الحاضنة لا تدعمه. يقتبس الوردي من توينبي أن الظروف الجيولوجية أدت لتشكل الصحراء في المنطقة العربية، وهذا بدوره قسّم سكانها إلى فريقين: بدو يتنقلون خلف المرعى، وحضر استوطنوا الأنهار المجاورة ممتهنين الزراعة. ويسترسل توينبي أن قصة آدم وسقوطه من الجنة ليست سوى رمز لهذا التحول الجغرافي. وترمز قصة ابني آدم قابيل وهابيل للصراع بين البداوة والحضارة، فقد جاء في التوراة أن هابيل كان راعياً، وقابيل كان مزارعاً.


حينما ندرك أثر البيئة في تشكيل الإنسان وأخلاقه، سنفهم سر تواصل المواعظ الدينية منذ قرون على آذان الناس دون أن يتمسك الناس بما في هذه المواعظ. لا يستطيع سكان المدن التوقف عن الغش والكذب والاحتيال، وقد جاء في الأثر أن شر الأماكن هي الأسواق. ولا يستطيع البدو التوقف عن النهب والسطو والإغارة. نمط البيئة في كل منهما يحتم على أهلها اتباع هذه الأخلاق كي يستطيع النجاة والتأقلم، ثم يوفر مكانة أفضل له في بيئته.


شيوع المدنية الحديثة، وتحول نسبة مهمة من التجمعات البدوية والريفية في العالم أدى لتوسع رقعة الحضر. ولا بد هنا أن يتغير مفهوم الأخلاق مرة أخرى. يقول الوردي: إن الأخلاق الجديدة أصبحت قائمة على أساس أن يكون الإنسان مؤدباً مع غيره نافعاً لهم غير ضار. ولا يهم المجتمع بعد ذلك أن ينغمس الإنسان في ملذاته كما يشتهي، فهذا أمر عائد له وحده. إذن لم يعد المجتمع الحديث ينظر للفرد بناء على مثالية أخلاقه، بل على مدى نفعه وضره لهذا المجتمع.


الدولة في نظر ابن خلدون


يعتقد ابن خلدون أن الدولة قوية في بدايتها، ما حافظت على عصبيتها، ثم تضعف بانتشار الترف. بناءً على هذا قسم ابن خلدون الدولة إلى مراحل عمرية حضارية تنتهي بانتشار الفساد والضعف في أجهزة الدولة وغياب العدل فتأتي عصبية أخرى لتؤسس دولة جديدة.


يخالف هذا النظرة الإسلامية التقليدية التي تؤمن أن الدول تنهار بابتعادها عن شرع الله. لقد ظن الفقهاء أن الانحطاط السياسي للدولة هو بسبب البعد عن الدين والسنة، ولهذا بالإمكان الرجوع إلى القوة بإعادة التمسك بالأصول. بينما يرى ابن خلدون أن دولة الإسلام استنفدت ما عندها ويجب عليها إفساح المجال لحضارة أخرى قادمة. لم يتوان ابن خلدون عن تبيان جهل الفقهاء وأهل الدين بالسياسة، بل وطالب أهل العصبية (الساسة) بإبعاد أهل الدين عن مراكز اتخاذ القرار السياسي؛ لأنهم لا يرون الأمور نظرة واقعية بل يقيسونها على المثالية التي يتصورونها في المجتمعات.


والمتتبع لمصنفات الفرق الإسلامية المختلفة في رؤيتها للدولة القائمة في حينه، يراها إما إيجابية أو سلبية مطلقة. ساد في أدبيات هذه الفرق منطق "هذا من شيعتي، وهذا من عدوي"، فالدولة التي "من شيعتي" هي دولة عادلة، خارجيٌ كل من ثار عليها، والعكس صحيح أيضًا فقد اعتبر الفقهاء بعض الدول سيئة طالحة مغتصبة للحق من أهله، لم تقم عدلاً ولم تفعل خيراً. لكن ابن خلدون يرى أن الدولة تكون جيدة ما أقامت العدل بين الناس، ومتى ما ساءت وضعفت فإنها تنتظر مرور عصبية أخرى تطالب بتكوين دولة جديدة.


إلاّ أن نظرية العصبية السياسية للدولة التي كان أول من لاحظها ابن خلدون لم تعد تتناسب مع هذا الزمن، فالدول الحديثة لا تقوم على العصبيات إلاّ فيما شذ وندر. الدولة الحديثة تقوم على العقد الاجتماعي والديمقراطية حيث تحترم الدولة الإنسان وخياراته ولا تتدخل فيها مادام لا يؤثر بذلك على الآخرين، ويقوم الفرد بالمقابل بدفع الضرائب للدولة التي تسهر على المصلحة العامة. لكن الدولة الحديثة التي يصنعها الإنسان لا تستهوي المثاليين. إنهم لا يستسيغونها؛ لأنهم يرون الإنسان من السماء، لا من الأرض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق