الاثنين، 25 أغسطس 2008

عنترة بن شداد بين التوحيد والإشراك 3-3



3. السيف والقلم:

السيف: برع الأمراء والخلفاء المسلمون في السيطرة على أقاليم الدولة من خلال المبدأ التالي "من أشار برأسه هكذا، ضربناه بالسيف هكذا وهكذا" ولهذا كان للأمير قديماً سيافه وصاحب النطع الذي لايتوانى عن قطع أي عنق إرضاءً لسيده. وللأسف ورثت الدول الحديثة سيف عنترة البتار الذي حصد الرؤوس التي أعلنت عن نفسها لتخمد الرؤوس التي تراودها الظنون بعدم وحدانية عنترة. لكن الدولة لم تعد تستخدم السيوف القديمة، بل تعدت ذلك إلى أجهزة الأمن والمعتقلات والتعذيب والاغتيالات وغيرها من الأساليب المستبدة التي زخر بها تاريخ منطقتنا العربية. كانت النتيجة أن هذه الأوطان لم تعد تحوي إلاّ المستكينين لعقيدة عنترة.

القلم: لعب القلم دوراً مهماً للغاية في تدعيم السلطة من خلال انخراط أرباب القلم والفكر في الدولة منافحين عن المُستبد لتسويقه كمُستبدٍ مُستنير أو رسمه كمُنقذ ضروري للمرحلة. ويؤدي أرباب القلم دورهمُ إمّا بإيمان أو بمنفعة ماديةٍ (وهو الغالبُ). وقد نجح هولاء في تصوير المستبد بأنه يشغل ويحتكر كلُ الأمور الضرورية (وأحياناً غير الضرورية) في النظام والمجتمع. فالمستبد يتحول تدريجياً -كما يُسوق- من قائد مُلهِِِم إلى قائدٍ مُلهَم وبهذا يركز رويداً رويداً بعض الخصائص الإلهية حول شخصه. وقال الشاعر حديثا:
من المرمر صاغوا مثاله.... .... وطافوا به كل ناحية زمرُ

لهذا مازالت الدول الحديثة تهتم برعاية المثقفين المسوقين للنظام السائد، مبيينين فضائله ومحاسنه. أيضًا فرضت هذه الأنظمة سلطتها القصوى وقيودها الصارمة على وسائل الإعلام. ويظهر لنا أن القلم كان معنياً برسم الصورة النمطية لعنترة، والسيف مسؤول عن حصاد الرؤوس التي ترفض هذه القيم الأسطورية.

ومن هنا رأينا أن الإعلام الرسمي في عالمنا العربي بدأ في تسويق فكرة عدم ملائمة النموذج الغربي للديموقراطية لأمتنا ذات الخصوصية الحضارية والثقافية. وللأسف تجد هذه الفكرة الرواج المريب لدى البعض منا.

4. المال وطبيعة القطاع العام:

يقول المثل العربي "قطع الأعناق ولاقطع الأرزاق"، وفي حقيقة الأمر يصح ترتيب هذا المثل "لالقطع الأرزاق وبالتالي لالقطع الأعناق". منذ أن تحول المجتمع بسرعة كبيرة من الطبيعة الرعوية والبدوية إلى الطبيعة الحضرية، انتقلت شرائح مهمة في المجتمع من طور الاستقلالية المعيشية إلى طور التبعية الاقتصادية للدولة. ففي باديء الأمر، استوعبتْ الدولة شيوخ القبائل المهمين بالمال السياسي لكسب ودّهم وكفّ شرهم، وفي مرحلة لاحقة استدعى تغيّر بنية المجتمع اتساع الجهاز الحكومي فأدّى ذلك إلى امتصاصه أعداداً كبيرة جداً من أفراد القبائل الرعوية والريفية ضمن تلك الأجهزة. فنشأت البيروقراطية الحكومية في المجتمع، وصارت الدولة بأجهزتها الوعاء الشامل والجامع لأغلب القبائل ورجالاتها. في مرحلة لاحقة بدأ المجتمع باستقبال أعداداً متزايدة من خريجي الجامعات نتيجة لتطوّر النظام التعليمي في الدول، فازداد استيعاب الدولة لتلك المخرجات لتضمن لهم مقاعداً مهمةً في بنية الدولة، وليتحول الفرد ذو التعليم العالي إلى أداة بيروقراطية في يدِ الدولةِ. والمتفحّص لهذا النسق الاجتماعي يلاحظ أن الإنسان بصفةٍ عامةٍ يحرص بشدةٍ على تأكيد مصدر رزقه، وحمايته دون المخاطر، حتى وإن اقتضى ذلك التنازل عن استقلالية الفكر داخل الإطار العام للنظام الحكومي، والإيمان بأساطير وعقائد عنترة في ظل غياب المؤسسات النقابية الفاعلة التي تحمي الموظف.

استدراكات:

تبدو الصورة المرسومة سوداء ، لكنها في حقيقة الأمر ليست كذلك. مع نهاية عقد التسعينات دخلت الدول العربية منظومة اقتصاد السوق والعولمة التجارية لتبدأ عملية الخصخصة لمنشآتها الحيوية بعدما أممتها في وقت سابق من القرن الماضي. ومع استمرار عملية الخصخصة تغير رب العمل من الدولة المتفحصة لأفكار موظفيها إلى مستثمر يهم بالانتاجية ولاتعنيه آراء موظفيه في النظام الحاكم. هذا التحول الذي طرأ على المجتمعات العربية حالياً بكثرة التوظيف في القطاع الخاص كفيل باعتقادي بإيجاد تغير مهم في العقلية المجتمعية في المدى المنظور. بل إننا بدأنا نرى بعض المظاهر العمالية لرفض الاستبداد في عدد من الدول العربية التي ولجت عملية الخصخصة.

انتشار الوعي والثقافة الجديدة بسبب التعليم ووسائل الاتصال الحديثة مع الأمم الأخرى كفيلة بتغيير مواقف الشعوب تجاه طبقة رجال الدين الرسميين. إضفاء الشرعية على الوضع القائم، وتحريم الدعوة إلى التغيير قد تقفد هذه الطبقة الاحترام من قبل عامة الشعوب. بل والخوف أن يفقد الدين ذاته الاحترام بسبب هذه الطبقة المحتكرة لاسم الدين. آن الأوان لرجال الدين أن يدركوا أن الأمي البسيط الذي كان يرقص طرباً على وقع فتاويهم المخدرة في الأزمنة الغابرة قد حل محله إنسان متعلم ازداد وعيه ولايكفيه قرص إسبرين كي يلين ويستكين.

لماذا هذه المقالة؟

يلاحظ المرء الأحداث التي تمر أمامه لكنه قد لايعير انتباهً لامتداداتها وتشعباتها في المجتمع واستمرارية الأحداث ذاتها. لهذا فلا أقل من الإشارة إلى ظاهرة عنترة الطاغية على الواقع والماضي العربي. القيم العالمية المعاصرة لاتدين ولاتقر بوجود عنترة بل تظن أن الحاكم ما هو إلاّ عابر سريع لسدة الحكم ليتركها لمن يأتي بعده ضمن سياق ديموقراطي عادل. يتمنى الكثير منا أن يفهم المتنفذون هذه القيم التي سوف يعتنقها العرب عاجلاً أم آجلاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق