الأحد، 26 أبريل 2009

قالوا من فعل هذا بآلهتنا؟!

قالوا من فعل هذا بآلهتنا؟! "مقال للمعتصم البهلاني"


بسم الله الرحمن الرحيم

ما كدت اكمل جملتي في ندوة حرية التعبير التي اقامتها الجمعية العمانية للكتاب والادباء حتى انقطعت الكهرباء عن القاعة لتحمل معها نصف الحضور تقريبا بعد ان كانت مداخلتي هي اخر مداخلات تلكم الليلة المباركة. لا ادري لماذا قفزت هذه الحادثة الى ذهني في الوقت الذي كان فيه فضيلة القاضي خالد الهلالي يتلو بيانه امام الكتاب والادباء اللذين اكتضت بهم القاعة رقم (١) في المحكمة الابتدائية بالحيل الجنوبية قبل ان ينطق بالحكم في القضايا المرفوعة على الكاتب علي الزويدي. ذلكم البيان الذي ذكر فيه مصطلح "الحرية المسؤولة" ومفهومها وتمايزها عن الحرية المطلقة. حيث ان الاولى - اعني الحرية المسؤولة - بدات تاخذ بعدا جديدا في تعريف الحرية بالمفهوم السلطوي والذي يحدد معنى "المسؤولة" بتلك التي لا تخالف القانون الذي لا يملك حق عزفه الا من يملكه.


لقد كشفت قضية علي الزويدي الكثير من الجوانب في العلاقة ما بين المؤسسة الرسمية - او ان شئتم السلطة - وبين المثقف العمني. بل ولا ضرر ان ازعم انها ايضا رسمت ملامح العلاقة المستقبلية بين الاطياف الثقافية والسلطة. ولعل ندوة حرية التعبير التي اقيمت في منتصف هذا الشهر وضعت التشكيلة الاولى لماهية مستقبل العلاقة وامكانية حدوث تكامل او تصادم ما بين الطرفين. وما يمكنه ان يرسم مسار المستقبل هو مدى فهم الطرفين لبعضهما البعض، اعني هنا مدى فهم المثقف لماهية السلطة ومدى فهم السلطة لمعنى الثقافة وقدرة المثقف. فالسلطة ترى في نفسها الوريث الشرعي لمنجزات ما بعد اكتشاف النفط في عمان او ما يعرف في الوسط العماني بالنهضة المباركة. وترى ان النموذج الحقيقي للمثقف هو ذالك الاديب المنغمس بطبعه الادبي في ذاتيته المفرطة والتي دائما ما يحاول ان يبجلها في تصويره للـ "انا" فقط في نتاجه الادبي. لتتشكل بعد ذلك - بفعل الالة الاعلامية التي تملكها السلطة - صورة نمطية احلت المبدع الاديب محل المثقف الواع في العقلية الجمعية للمجتمع العماني. ولعل هذه الصورة النمطية (المبدع = المثقف) كانت مترسخة الى وقت قريب ربما لا يتجاوز العقد من الزمن حين احدثت ثورة الانترنت الصاروخية شرخا في "مشخل" السلطة لتظهر المثقف "العضوي" حسب تعبير الحجري الى المجتمع، مما اضطر
بعض اولئك القابعين في نرجسية الابراج العاجية المفرطة في الذاتية الى النزول منها متوسلة الولوج الى المجتمع محاولة ايقاظه - او ان شئتم تحريره - من البرسيم الاعلامي الذي اطعم اياه خلال العقود الماضية. حال المثقف كحال "نيو - Neo" من من فيلم المصفوفة The Matrix والذي ما ان تم فصله عنها حتى بدا طريق ثورته في تحرير العقل البشري من وهمها.

الا ان الفارق ما بين Neo والمثقف المحرر هو ان هذا الاخير ما ان يدخل الى مصفوفة السلطة مرة اخرى الا ويعتبر نفسه جزء منها‘ وينسى انه في الاصل ليس سوى "بطارية" تستخدمها السلطة للبقاء والثراء مقابل احساس الفرد بالامن والشبع والسكر والشبق. ولا ادل على ذلك من بعض ردود الفعل التي جائت بعد النطق بالحكم في قضية علي الزويدي، فوجدنا مجموعة من المثقفين المحررين يتغنون بعدالة الحكم ونزاهة القضاء بسبب حكمي التبرئة والادانة الخفيفة! وكأن نزاهة القضاء لا تقاس الا بمجموعة الاحكام التي يصدرها القضاة
فقط. وان كانت مجموعة الاحكام جزء لا يتجزأ من عوامل معرفة نزاهة القضاء الا انها ليست العامل الاوحد. فهنالك عوامل اخرى من ضمنها الاستقلالية المالية والادارية وتفعيل اللامركزية الهامة لضمان حماية اعضاء السلك القضائي من اية قرارات تعسفية واخضاع جميع مؤسسات الدولة لسلطة القضاء بما فيها الجهات العسكرية والامنية. وقبل هذا وذاك تحقيق دراسة اكاديمية قانونية حقيقية للقضاة* وايجاد برامج تدريب وتاهيل لما بعد تخرجهم تضاهي - بل وربما تجاوز - تلكم التي يتلقاها الاطباء والمهندسون. وانا هنا لا انكر او اشكك في نزاهة القضاء العماني وانما اقول ان القضايا المتعلقة بالانترنت اوضحت ان القضاة ليسوا من المريخ، بل هم من شباب وابناء هذا الوطن، فيهم التواق الى التغيير والغيور على بلاده، وفيهم صاحب الهوى السلطوي، وكلهم يحكم بالقانون ومدى فهمهم له وتقديرهم اياه. فيجب ان لا ننسى ان القضاء الذي برأ سعيد الراشدي وعلي الزويدي هو ذاته الذي ادان السيدة طيبة المعولي لاسباب من ضمنها انها قالت في رسالة خاصة ان فلان من الناس عصبي!

ان القول بان الحكم في قضية علي الزويدي هو انتصار لحرية التعبير وتصوير الوضع وكان البلاد بخير تام مسألة فيها محاولة خاطئة لتصوير ان اشكالية العلاقة ما بين المثقف والسلطة في البلاد تكمن في حرية التعبير فحسب. هذا الفهم الخاطيء سيقود المثقف من تخبط الى اخر ما لم يدرك الاشكالية الحقيقية ويعمل على تغييرها. فحرية التعبير بحد ذاتها ليست غاية وانما وسيلة، واية محاولة لجعلها كذلك تفرغها من محتواها الطبيعي وفصلها عن حرية التفكير لا تجعلها سوى بقبقة فارغة و"فش خلق" لا اكثر ولا اقل. ومن يدري؟ ربما هذا هو التصور الذي يريده البعض الخائف من وجود تصور حقيقي لحرية التعبير.


وربما هنا ايضا يكمن الخلل في مفهوم المثقف للسلطة ومدى شرعية قراراتها، ومتى يبلع لسانه ومتى يلعلع عن سرطان الفساد في البلاد. فالسلطة كاملة الاهلية وتستحق التضحية ورفع السكاكين والرماح والحجارة والرشاشات ما دامت لا تتدخل ما بين المثقف ولسانه، او بمعنى اخر ما دامت تسمح له ان "يبقبق" داخل اطار السلطة. اما ان يحاول المثقف التغريد - ولو بصوت منخفض - خارج نشاز السلطة فانه بلا شك سيلاقي اولا البطاقة الصفراء وان لم يسكت بعدها البطاقة الحمراء. ولا ادل على ذلك من قضية الدكتور العريمي والذي لم تستكمل مشاركته في ندورة حرية التعبير ٢٤ ساعة بل ربما ١٢ ساعة حتى جاء قرار من قبل وكيل الوزارة يقيد حريته في الكتابة، بل وما زالت ذاكرتنا تحتفظ بتعميم معالي الوزير ايقاف محمد الحارثي وعبدالله الريامي من الكتابة في الصحافة العمانية، بل وقبل كل هذا تفاجئنا الدكتورة سعيدة الفارسي ان ذات القرار مورس عليها قبل ٢٥ سنة!


ان حرية التعبير
وسيلة فاعلة لاحداث تغيير او ان شئتم تطوير في المؤسسات التي اصابها العطب واصبحت عتيقة في ادائها الذي اكل عليه الدهر وشرب. لقد ذكرنا مرارا وتكرارا ان الاشكالية التي نعاني منها في السلطنة لا تكمن في فساد مسؤول هنا او هناك او قانون يصدر اليوم بمرسوم ويلغى غدا بمرسوم اخر، ان الاشكالية تكمن في المنظومة السياسية الكلية والتي ما زالت تعتمد على الاحادية في كل شيء، فما من مؤسسة عمانية الا ولها الاب الروحي الخاص الذي تدور جميع القرارات في فلكه ولا تخرج عن مسار رؤيته.

دعوني اقولها لكم وبكل صراحة، وبدون لف او دوران او تعريض في الكلام، نحن بحاجة الى الارتقاء بالنظام الحالي من الملكية البحتة الى الملكية الدستورية، واول خطوة تكمن في ايجاد منظومة برلمانية متكاملة وهادفة، ومن بعدها تنحي السلطان قابوس عن رئاسة الوزراء ومجموعة الوزارات التي يرئسها ليقتصر دوره على رسم السياسة الخارجية، عقد الانتخابات، المصادقة على البرلمان، المصادقة على رئيس الوزراء، المصادقة على الموازنة العامة للدولة، حل البرلمان، تعيين القضاة، تعيين قادة الجيش والشرطة، تعيين مفتي الدولة، تعيين قادة الاجهزة الامنية. كما يقوم بخطوة مبدئية تقتضي بتعيين رئيس للوزراء مؤقت الى ان تتم الانتخابات، ويتم تعديل الدستور وطرحه للتصويت حتى يكتسب مصداقية شعبية اكبر.


ان نظام المشاركة الشعبية لم يكن بدعا على المجتمع العماني، فهو وان كان هرميا في تركيبته الا ان الثقافة الشوروية متاصلة فيه، والتجارب التي خاضها عمانيو الداخل والخارج قبل ثورة النفط عام ٧٠ تعطي دلالة واضحة على ما ازعمه. فالروح الشوروية كانت موجودة في زمن الامامة في الداخل، والتنظيم البرلماني مورس بشكل فاعل في زنجبار من قبل الاحزاب العربية على الرغم من التعثرات التي حدثت في كل من الداخل والخارج. نعم، لن يكون سهلا اليوم ان نعود الى النظام الشوروي ما دامنا نمارس القمعية كلما سنحت لنا الفرصة، الا ان الطفل لا يولد ماشيا، والعضلات التي استرخت لفترة طويلة من الزمن وترهلت لا بد لها من ان تمارس شيئا من الرياضة قبل اعادة تقويتها.


ان وجود نظام برلماني ملكي دستوري يحاسب اصحاب القرار على كل صغيرة وكبيرة لن يجعلنا في هذا الموقف المخجل جدا، فالكثير - ومن ضمنهم مجموعة من المثقفين - دخلت في جدل بيزنطي قشروي عن صحة فعل علي الزويدي بنشره الوثيقة، ولم يكلفوا انفسهم عناء التفكير في مضمون الوثيقة وهي ان الحكومة "الرشيدة" لا تريد ان ترينا الى ما ترى، وان هذا السبيل هو سبيل الرشاد، وعندما نشرت هذه الممارسة انتفض من انتفض قائلا "من فعل هذا بالهتنا"، من تجرا وحطم التماثيل التي عبدت عقودا والتي زينت بالعبارات الرنانة والطنانة والفنانة التي تغنى بها الشعراء واطرب بها الفنانون. جعلها علي الزويدي جذاذا يا سادة بنشره الوثيقة، وهاهو الله يخلصه اليوم مما اريد به من كيد.


علق الفأس يا سادة، فسئلوهم ان كنتم تعقلون.


بوركتم وبوركت عمان.


المصدر



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق