الخميس، 4 يونيو 2009

أنا هو الله قصة

أنا هو الله- قصة


قصة أنفضُ عنها غبار الإرشيف.


عندما رمى الحطاب فأسه بعيداً عن الخشب الذي كان يحطبه قرر أنه لن يحطب مجدداً.

قال لنفسه :
- الحطابة ليستِ الشيء الأهم في حياتي. لايهمني شيء في الحياة مثل رؤية الله!
أدركُ أن الله حين خلقني غرس في قلبي هذا الشوق العظيم لرؤيته والتمتع بجمال وجهه. لكن أين أنت يالله ؟

قلَّب الحطاب نظرهُ في السماء و كأنه يتفحصها جيداً قبل الذهاب لكوخه بأخشابه المقطعةِ.


الحقيقة أنه يعلن اعتزاله لمهنة الحطابة يومياً ولكنَّ الفقر وشدة الحال تجعله يرجع لحرفته التي لا يعرفُ غيرهَا. لم يكن همُ الحطاب في هذه الدنيا إلاَّ هاجس لقاءه مع الله. هذا الهاجس جعله منعزلاً عن مجتمعه القرويِّ ، فهو لبث في التفكير بملاقاة الله منذ أن تهامست القرى في ديار السامرة أنَّ عزرا وليُ الله قد رأى الله بعينيه الإثنتين ثم ماتَ. لم يرى أحدٌ عزرا و هو يرى الله و لكنَّ الكُهان يرددون هذا بين الناس وهذا الخبر هو ما يتناقله أهالي السامرة منذ أعوامٍ. هذه الحادثة أوحتْ للحطاب أنه يستطيع رؤية اللهِ في يومٍ ما، و هذا ما جعله يقوم بزيارة ضريح عزرا كلَّ سبت طالباً البركة وداعياً بكل المقدسات أن يستطيع ملاقاة الله.


استمرت أيام الحطابِ على هذا المنوالِ حتى جاءت ليلة الأحد العظيمة وهي الليلةُ التي مات فيها عزرا. حلمَ الحطابُ في تلك الليلة أنه يرى السماء تنشق فيهبط منها شيخٌ وقورٌ ذو لحيةٍ بيضاء كثيفة.

سأل الحطاب الشيخ :
- من أنت ؟
- أنت ماذا تريد ؟
- الله! أريدُ أن أرى اللهَ.
- إن كنت تريد رؤية الله ، فلماذا لا تبحث عنه ؟
اذهبْ و أسألْ عنه. حتماً ستجده في مكان ما.

ما إنْ ظهرت الأنوار الأولى للصباح حتى حمل الحطابُ زوادته فوق ظهره بادئاً رحلة البحث عن الله. بدأ خطواته الأولى راكضًا في إتجاه مشرق الشمس و السعادةُ تغمرُ وجدانه. توقف الحطاب بعد دقائق معدودة مستدركاً نشوته بتساءله عمن سيدله عن مكان الله.


بعد تفكير بسيطٍ تذكر الحطاب أنَّ الكهنة هم فقط من يعلمون أمور الغيب وأمور الحياة أيضًا. إنهم يعلمون أين رأى عزرا اللهَ ولذا فهم من يجب أن أتوجهَ إليهم.

ركض الحطاب بسرعة الريح إلى معبد القرية فرأى هناك الكاهنَ يقوم ببعض التراتيل المأثورة. سأل الحطاب الكاهن:
- أين أجدُ الله ؟ أريدُ رؤيته.
قال الكاهن بنبرة تأنيبية :
- بنيّ.. هذا ليس موضوعًا للمزاح.
- أنا لا أمزح ، أنا أبحث عن الله وأريد رؤيته.
و بعد أن تبين الكاهن الجدية الكبيرة في عين الحطاب استشاطَ غضباً و صرخ متوعداً:
- أيها الزنديق الملحد ، أتريد أن تبتدع في دين آبائنا و أجدادنا؟! ستُجازى على صنيعك هذا خير الجزاء. سيرفع اسمك إلى مجلس الكهنة لتلاقي جزاء البدعة التي تحدثتها في هذا الدين.

هربَ الحطاب حالما سمع هذا الكلام إلى خارج قريته الصغيرة التي لن ترى الله كما قال الكاهن. بدأ الحطاب في البحث عن الله في الطرقات و بجانب الأنهار و فوقَ قممِ الجبال و في الحانات أيضًا! لم يدع الحطاب مكاناً يعتقد أنه يستطيع رؤية الله فيه و لمْ يزره. انقضتْ ثلاثةُ أشهرٍ على بداية البحث الغريبة عن الله و لم يجد الحطاب شيئاً في كل الأنحاء التي بحث فيها.


بعد أن أحس الحطاب بالضياعِ و التشتتِ قفزت في رأسه تلك الشخصية الغامضة التي سمع عن كراماتها الكثيرُ من أبناء السامرة. و لذا سأل الحطاب نفسه :

- لماذا لا أزورُ الحبر الأعظم؟ إنه الإنسان الوحيد الذي بلغ من الحقيقة الغيبية مبلغاً لم يصله أحد من قبل.
توجه الحطاب إلى مرتفعات الجليل حيث يعيشُ الحبر الأعظم وحيداً منذ سنين طويلة. بعد إنقضاء أيامٍ صعبة في البحث عن الحبر لمح الحطاب من بعيد كوخاً تختبيء بين الأشجار الكبيرة. قصده سريعاً، و ما إن وصل هناك حتى رأى شيخًا ذي هيبة. كان منظر الشيخ يبعث الخشية والطمأنينة في نفس الحطاب. أنستِ الرهبة الحطابَ القدرة على النطقِ ولو بحرف واحد أمام ذلك الحبر العظيم.

ولمَّا لم يتكلم الحطاب ، تكلم الحبر بنبرةٍ أبوية :

- إنَّ الذين رأووا الله ثلاثةٌ لاغير. رأى آدمُ اللهَ حين خلقه، ورآه الشيطانُ حين عصى، ورآه موسى حين كلَّمه على الجبل.
تساءل الحطابُ : وماذا عن عزرا؟ ألم يرى الله ؟
استدركَ الحبر الأعظم : عزرا لم يرَ الله . عزرا رأى ظلَّ الله و مات. إن أردت رؤية الله تخيَّر أحد الطرق الثلاثة التي أخبرتك عنها.

خرجَ الحطاب من عند الحبر الأعظم و هو يداعب أشواقه لرؤية الله. لقد عرف الحطاب الطرق التي تقود إلى مكان الله، و لكنه بدأ يحتار في أيٍّهم يسلك. بكل تأكيد طريقُ آدم غير طريق موسى و هي أيضًا غير طريق الشيطان اللعين. كل واحد من هؤلاء الثلاثة اختلف مصيره بعد رؤية الله. فكَّر ملياً و من ثم اتخذ قراره بأن يسلكَ طريقَ آدم ليرى الله و ذلك لأنه ابن آدم.


كان الحطاب يدرك أن آدم خُلق من طين، وهذا هو الذي وجَّههُ إلى مصب النهر حيث تكثر المستنقعات والأوحال الكثيرة. أقام الحطابُ في المستنقعات نهاراً. أمَّا في الليل فإنه كان يأخذ من الطين ما يكفي لتغطية جسده كاملاً. استمر الحطاب على هذا المنوال أيامًا وشهوراً وسنواتٍ كثيرة. لم تستطع الطيور و الحيوانات و السيَّارة من بني آدم تمييزه من قِطَعِ الأخشاب التي ترتمي على ضفة المستنقع أو من بعض الزواحف التي تسكن اليابسة وماء المستنقع. ظل هاجسُ رؤية الله هو المسيطرُ في نفس الحطاب طوال تلك السنوات. لم ينقص الشوق بل زاد الفضول إلى ذلك الموعد المرتقب.


كان الحطاب يَعُدُّ الأيام والليالي منذ اليوم الأول. توقف عن العدِّ حين اكتملت العشر سنوات بالتمام. سأل الحطاب نفسه في تبرم كبير :


لماذا لم أستطع رؤية الله طيلة العشر سنوات مثل آدم ؟ هل لأن هذا الطين لا يشبه طين آدم ؟

أجاب الحطاب على سؤاله هذا "بربما". ثمَّ أردف :
لكنني متأكد إن اختلف طين عن طين فإن الشرَّ لا يختلف أبداً بعضه عن بعض، و المعصية لا تختلف في آثامها عن المعصية. إنَّ الشيطانَ رأى الله بسببِ المعصية و سأرى الله بسببِ المعصية ولو كان هذا عقاباً لي وليس جزاءً. إنَّ رؤية الله تتطلب مشقةً عظيمةً يجب أن أبذلها.

قصد الشيطان مدينة كنعان التي كانت في حالةِ عداءٍ مع السامرة. بعد المسير أياماً وصل الشيطان كنعانَ ليلاً. تسلل إلى قلب المدينة حيث يقع السوق الكبير فرأى هناك صائغاً يهم بإغلاق دكانه فما كان منه إلاَّ أن قتله ثم سَرَقَ جميعَ المجوهرات من ذلك الدكان. باع الشيطان تلك المسروقات و قبض ثمنها نقداً ما جعله أحدَ أثرياءِ كنعان. لم يهرب الشيطان من كنعان بعد جريمته الأولى بل استقر هناك ليبدأ مهمته الغامضة.


بعدَ شهورٍ بسيطةٍ اضطربت الأحوال كثيراً في كنعان حتى أغلق كل بيت بابه نهاراً واستعدَّ ساكنوه ليلاً لقتال كل من يقتحم بيوتهم. انتشرت السرقات و جرائم القتل في المدينة. كان الفلاحون والفقراء هم أولى الضحايا ما جعل الناس تتهم الأسر النبيلة بفعل ذلك بغرض استغلالِ الأراضي الزراعية التي يمتلكها الفلاحون. ومن ثم طالت هذه الأحداث التجار أيضًا فأفلسَ الكثيرُ منهم وقُتل الكثير منهم وهربَ من بقي منهم إلى خارجِ كنعان. بقي حاكم كنعان في حيرة و ذهول كبير لم يستطع معه أن يحرك ساكناً. بات يشاهد المدينة تسيرُ إلى الخراب وحروبُ العصابات و الهجمات و الهجمات المضادة تلهبُ الأحداث في المدينة.


مضت الأيام المخيفة في كنعان ببطء شديد. رافق هذا نزوح فئة مهمة من سكانها إلى البراري والمدن المجاورة. مناظرُ الدماء والبيوت المحروقة كانت تفرح الشيطان لأنه كان يخلق المعاصي وهذا يعني أنه صار أقربَ إلى رؤية الله. لم ينتبه الشيطان إلى مرور الوقت كثيراً إلاَّ بعدما أحس أنَّ العشر سنوات التي قضاها في كنعان قضت على كنعان ولكنها لم تجعله يرى الله. بكى الشيطان كثيراً في ذكرى اكتمال العشر سنين على دخوله كنعان لأنه فقط لمْ يرى الله في كنعان.


و كما دخل الشيطان كنعان خرجها متسللاً. وقف بعيداً ليلقي عليها نظرة أخيرة وهي تحترق و جنود السامرةِ يدخلونها من كلِّ الأنحاء. قال الشيطان متنهداً :

- هنا الشيطانُ يعود حطاباً باحثاً عن مكان الله !
لا شكَّ أنَّ جبل موسى هو الذي سأرى على صخوره الله. هناك حتماً رأى موسى الله ، و سأراه أنا هناك.

قصد الحطاب جبل الطور، و ما إن وصله حتى بلغت النشوةُ أقصى مداها. فالأيامُ والليالي التي تفصله عن موعده مع الله سوف تنقضي بسرعةٍ. غيَّر الحطاب ملبسه و هيئته. تركَ الثوب الرثَّ الذي كان يرتديه ولبس بدلاً عنه الصوفَ و اتخذ أيضًا عصًا من شجرة التين الكبيرة. مع مرور الأيام طال شعرُ رأسِ ولحيةِ الزاهد كثيراً فبدا حينها أنه إمامُ العارفين.


كان جبل الطور مقصدَ الكثير من الزوار الذين يأتونه للتبرك بالأحداث العظام التي وقعت هناك. بدأ الزوار يلاحظون ذلك الزاهد الذي يسكن في الجبل. ثم قام الناس بأخذ بركاته ودعواته لهم. انتشر بعدها خبره كثيراً في المدن القريبة والبعيدة التي بدأت تزورُ الزاهد عوضًا عن الجبل. أتت القوافل من أصقاع الأرض لترى وجه الحطاب الزاهد. كان الناس ينتظرون أياماً أمام مدخل المغارة حتى يخرج الزاهد ليقطف ثمراًً لسَدِّ رمقِهِ. كان الزائرون يأتون محملين بالهدايا وبالمرضى أحياناً ليدعو لهم الرجلُ الصالحُ أو ليلمسهم أو حتى ليروا وجهه فقط.

مضت السنون حتى اقتربت العشر سنين من النفاذ، والرجل الصالح يحلم كل ليلة برؤية وجه الله. كانت صلاته و دعاءه لله طلباً لرؤيته تجتذب مئات من الأتباع و المريدين الذين يصطفون لتقليده فيما يفعل. كل هذا الحشود التي كانت تدعو معه لم تُيسِّر له رؤية الله المفتقدة.


في تلك الليلةِ التي اكتملتْ بها العشر سنين، هربَ الزاهدُ من الجبل طارحاً الصوف عن جسده. لم يرى الله وهو على جبلِ موسى.

أين هو الله يا ترى ؟ هذا ما حدثتهُ به نفسُهُ.

بعد ثلاثينَ سنةٍ من البحث عن اللهِ بطرقٍ مختلفة بدأ اليأس يتسرب إلى أهداب الحطابِ. لكنْ الحطاب قبل أن يحسمَ أمره في بحثه الغريب صممَ على زيارة الحبر الأعظم الذي دلَّه على الطرق الثلاثة ليعرفَ السببَ عن احتجاب الله عنه طيلة هذه السنوات الطويلة.


قصدَ الحطابُ الغابة مرة أخرى باحثًا عن الحبرِ الأعظمِ. كلما تقدم الحطاب إلى موقع الكوخ المقصود ازداد خوفه وارتعشَ بدنه بشدة كبيرة، فهو سيعرف بعد قليل لماذا لم يردِ الله أن يراه!. حينما وصل باب الكوخ تسلل إليه باضطرابٍ كبيرٍ. وزَّع نظره في أنحاء الغرفة الوحيدة فلم يرى الحبرَ الأعظمَ. قام الحطاب ينادي عالياً خارج الكوخ باسم الحبر الأعظم و لم يجب أحد أيضًا. أبصر الحطاب شاهدَ قبرٍ يبعدُ ثلاثينَ ذراعاً من الكوخ. توجَّه إليه ببطءٍ شديدٍ وخوفٍ أشدَّ من رائحة الموت الكريهة التي أنستهُ مسألةَ رؤيةِ اللهِ حينها.


ما إنْ ازدادَ اقتراباً حتى استطاعَ أن يميِّز القبر جيداً. اقترب الحطاب رويداً رويداً وهو يرتجفُ. كلما اقترب أكثر تبين له المكتوبُ على شاهدِ القبر. و ما إن لامسَ الشاهدَ متحققاً من الكتابة المحفورة على وجهه حتَّى شهقَ شهقةً ارتجتْ لها أنحاء و أصقاع الغابة ، ثمَّ مات.

كان الشاهد مكتوبٌ عليهِ:
" أنا هو الله ".
.

هناك 8 تعليقات:

  1. جميلة جدا، لكن الرسالة غامضة بعض الشيء بالنسبة لي . هل المقصود أن الله موجود حولنا ولكن نحن من لا نشعر بوجوده؟

    ردحذف
  2. عميقة وقوية في المعنى... القراءة هنا لغرض التفكير لا للتسلية.. احببتها!

    لعلك تخرج لنا المزيد من إرشيفك :)

    ردحذف
  3. فريال،

    أهلاً بكِ..
    الإرشيف قابل للمراجعة والتدقيق.
    ولا بأس من إخراج بعض أجزاءه من حين لآخر..

    لكِ أجمل تحية.

    ردحذف
  4. عيناك،

    شكراً لوجودكِ هنا. ربما كان المقصود هو ما ذهبتِ إليه.

    تحيتي لكِ.

    ردحذف
  5. العزيز حمد ...

    رائعة هي القصة تدعوا الى التفكير بعمق ...اكثر

    اذا تقربت من الله تقرب اليك اكثر ... واذا بتعدت .. ابتعد

    جميلة ذكرتني بمسرحية مسافر ليل ...

    تحياتي لك

    ابراهيم ...

    ردحذف
  6. إبراهيم العزيز،

    أينَ كنت؟
    افتقدتًك لفترة طويلة.

    ردحذف
  7. العزيز حمد ...

    دمت بود ... ومحبة

    كنت خارج البلد ....

    وبالمصادفة التقيت باحد الاخوة من تونس واسمه عبد السلام .. وهو يبلغك تحياته .. يقول انه من اصدقائك المخلصين ... ( في ماليزيا يا حمد )

    عموما سعدت بمعرفتك

    ابراهيم

    ردحذف
  8. أهلاً يا إبراهيم..
    شكراً لك. شكراً لوجودك هنا، ولعبدالسلام التونسي بماليزيا.
    أتمنى أن تكون هنا دوماً.
    لك أسمى تحية..

    ردحذف