الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009

المُقدمة، كتاب مهم 1

المُقدمة، كتاب مهم 1




يقولُ ابنُ خلدونِ:
"منَ المُحالِ دَوامُ الحالِ"


لا يمكنُ الإفلاتُ من الاعتراف بعبقرية ابن خلدون وجاذبيته الفكرية والسياسية. يحاولون طمس تراثه الكبير تحت ذرائع الشعوبية، والنفعية البحتة في السياسة. لكنهم يعتزون به أمام الغرب والشرق، ويعتدون "بمقدمة ابن خلدون"، في حين تتخطاهُ قراءاتهم وأجاليهمُ.

لا يمكن أن يكون ابن خلدون إلا شعوبياً. هكذا حكم صديقٌ منذ زمن على ابن خلدون، لكنني لم أفهم معنى كلامه. فكيف يكون الرجلُ شعوبياً، وهو عربي الأصل والثقافة. ولم يكن الدافعُ إعادة قراءة ابن خلدون، بل إعادة فهم المنطلق الذي صدر منهُ الصديقُ.

اتهم أو حوكم ابن المقفع، وبشار بن برد، وصالح بن عبدالقدوس، وأبو العتاهية بتهمة الشعوبية، وهي الاستنقاص من العرب عرقياً وحضارياً. المذكورون هم مفكرون وشعراءُ عباسيون يتحدرون من أصول غير عربية، إلا أن الأفكار التي حملوها ضد العرب -إن حملوها حقاً- قد تلاشت، ولم يبقَ منها إلا حديث السامرين وكتب الأدب. بينما بقيَ النقد المنظم الذي وجههُ ابن خلدون للعرب حتى يومنا هذا، لنصفه بالشعوبية الحضارية دون أن نبذل جهداً لفهم ابن خلدون. ودون أن نتخففَ قليلاً من حكمِ "كنتم خيرَ أمة".

لن يمكن أن تكون مقدمة ابن خلدون إلا شذرة عبقرية لم تجد بنظيرها المكتبة العربية الإسلامية. إنها أبرز كتاب عقلاني يُخرِجُ به صاحبُه التفكير العقلاني الحرُ إلى حيز الموجود (وكان هُنا المجتمع) بعدما اقتصر على الُموجدِ وأحواله. إنه تفكير نقدي، ومنظم، ومنهجي، وتراكمي في فصولهِ.

يقولون أن أفعالَ الإنسان تسبقُ تفكيرهُ. إنه يفعلُ ثم يفكر، ولو فكر قبل أن يفعل لاختلفت أحوال كثيرة. وأرى أن المتنبي وابن خلدون تشابها في الطموح والفعل. وكلاهما فشل في طموحه، وقادتهُ أفعاله إلى الوجهة الغير مقصودة. لكنما المتنبي فعلَ، ولم يفكرُ في أحواله، بينما فعل ابن خلدون العكس. وبسبب الفعل المُعاكس كتب الخلدوني مقدمته.

لِم يفشلُ طامحُ بالإمارة في الحصول عليها رغم امتلاكه مواهباً سياسية؟ أجاب ابن خلدون على هذا السؤال بعدما تكرر فشله في الحصول على الإمارة، وأجاب عليه حينما تنسِك لسنين عديدة في بوادي المغرب ليخرج للعالم المستنير بنظريته حول "العصبية السياسية"، و"نشوء وارتقاء الدول ثم هرمها واندثارها". وله مساهمات قيمة جداً حول المجتمع، وطبيعة العمل، والأخلاق، والدين.

هروبُ الخلدوني إلى البادية، وتأملهُ مصير المغرب ودوله بعد غزو قبائل بني هلال وبني سليم قادته لاكتشاف نظرية العصبية، وتكوين رؤيته حول العرب أنهم أمة وحشية لا تقوم أمورها إلا بدعوة دينية توحدهم. وأن الدولة لابد أن تمر بأطوار عدة تتناسب مع أطوار الإنسان: نشوء، فتوة وتوسع، نضج، هرم واندثار. وأن العصبية السياسية لابد أن تختفي من النظام الحاكم حينما تتحولُ الدولة من نظام القبيلة، إلى استحداث الجُند من خارج العصبية، وقلة جباية الأموال بسبب انحسار الغزو، ثم ازديادُ العجز في المالية. ونشوء عصبية أخرى تؤذن بنشوء دولة حديثة. وربما نعتقد للوهلة الأولى أن نظرية ابن خلدون لم تعد صالحة في زمن الدول الوطنية. لكن التفحص المتزايد قد يذهب إلى عكس الفكرة السابقة.

والطريفُ في الأمر أن نرى فقهياً مالكياً كبيراً، وعالماً أشعرياً متمرساً كابن خلدون يحللُ في مقدمته علاقة الدين والدولة. فيدعو إلى إبعاد أهل الدين عن الدولة وأمورها لأنهم يفسدونها. ولربما قفز في خلدنا سؤال متذاكٍ: هل كان ابنُ خلدون علمانياً؟ وحينما حلل ابن خلدون تاريخ نشوء الدول قال إن الدعوة الدينية هي دعوة للمُلك والاستبداد.

واعتبرَ الخلدوني أن الحضارة هي المدنية، والمدنية من التمدنِ، والتمدن من نشوء المدن الكبرى، وهو عكس الريف والبدو. والمدنية تخلقُ أنماطاً جديدة من العمل، والعُمال. وهذا يؤدي إلى نشوء أخلاق جديدة مخالفة لما استقر في ثقافة البدو أو الريف. ثم انبرى الخلدوني لتحليل إيجابيات وسلبيات النظامَيْن الأخلاقيين معاً، لنستنتج معه أن البيئة تحددُ المقبول والمرفوض في العرف الأخلاقي، وأن إنكار واقع الأخلاق الجديد هو ترهبنُ واغتراب عن الواقع بسبب تصادمه مع المُثل التي شكلتها بيئات وعوامل أخرى.

"ماذا خسر العالمُ بانحطاط المسلمين؟" كتاب مؤثر لأبو الحسن الندوي. إلا أن الخلدوني يرسمُ في مقدمته أن التأخر والتقدم الحضاري لا يحصلُ بطاعة الله أو معصيته. بل من خلال أسباب موضوعية، ودورة طبيعية تمرُ بها مجتمعاتُ العالم. ومما لا بد منه في سبيل ذلك الانتقال من منظومة ثقافة القبيلة إلى المدينة، وهذا يقودنا مرة أخرى للمدنية، أي إلى الحضارة المعاصرة التي يرفضها الكثيرُ منا لأنها ليست من الله.

وماذا خسرَ العربُ باندثار تراث ابن خلدون، ذلك التراثُ لم يُدرس بعناية، ولم تتقبلُه السلفيةُ الجديدة نقداً عمرهُ أكثرَ من ستمائة سنة.

لنقرأ ابنَ خلدون بروحٍ معاصرةٍ، ولننتقدهُ بعيونِ اليومِ، لا الماضي.

هناك 6 تعليقات:

  1. رائع جداً يا حمد .. رائع للغاية ..

    فكرة إعادة قراءة ابن خلدون ما رأيك بها؟؟


    نتفق نحن مجموعة من خمسة اشخاص على قراءة المقدِّمَة مثلا في شهر يناير القادم

    ردحذف
  2. أهلاً يا معاوية..
    شكراً لك. إعادة قراءة المقدمة هي فكرة صائبة جداً.
    أنا مستعد لذلك..:)
    جاهز أنت؟

    ردحذف
  3. سلام يا حمد..

    أنا عندي مقدمة أبن خلدون.. وقرأتها .. ولي عليها ملاحظات ولكن لا تكفي لأهدر أدبه وفكره..

    أنها خطة كما قلت.. والمراد منها تهميش الأدب والفكرالحقيقيين والنهوض بنا لذ وطاب.. لإفساد العقول..

    عاد انا بعطيكم الكتاب وانتوا إقروا.. أنا وحدي ما عندي وقت.. عندي ذبايح وسلب ونهب وغارات على القبائل المجاورة.. تعرف أنا صعلوك

    كل الشكر لك ولإستاذ فنان (معاوية)

    وكل عام وانتم كذاك يعني كما يقولوا بخير..

    ردحذف
  4. صُعلوك

    شكراً لمرورك هنا.
    المقدمة تحتاج نقداً بدورها، لكن النقد لا ينبغي أن يقوم به المؤدلجون مسبقاً.
    لك التحية والتقدير..

    ردحذف
  5. أيواااااا .. يعني هيه فوضى يا معلميين

    ابن خلووون ، ما حد تعبني في هذه الدنيا غير ابن خلدون ومقدمتة الأسطورية ، سنة وأنا جالس ادح على ذيك المقدمة أنتظر متى تخلص ، يقولون المستفيضين من درسوه أن ابن خلدون ينتقل بآلة الزمن ويقول غيرهم أنه من الجان ولكن الأصوب منهم يقول أنه شعوب مثلما ذكرت يا حمد أو بالأحرى ذكر صديقك.

    أسجل حضوري لمبادرة معاوية بذات الشرط الذي ذكرته يا عزيزي

    ردحذف
  6. عبدالمتبصر..
    مبادرة معاوية حققت بعض الزخم..
    وأتمنى نشارك جميعاً فيها..
    بالمناسبة، فيه كاتب أردني ألف كتاب بعنوان "مؤخرة ابن خلدون".
    تحيتي لك

    ردحذف